ابعاد القصة: حماس – اسرائيل والبحث عن النقلة النوعية في فلسطين – الجزء الخامس

في حلقة خامسة من سلسلة المقالات الخاصرة بحصار غزة، كنت قد كتبت مقالا مطولا عن الصراع الخفي الذي تعرفه الأوساط الحقوقية في مراكز القرار العالمي حول “القوانين الدولية” ، وقد تراجعت عن نشره نظرا لكون الموضوع جد معقد ومتخصص، وقد لا املك الكفاءات الضرورية للحديث في هكذا موضوع، وقد انشره لاحقا معتبرا ذلك نوعا من التعبير عن الرأي وإثارة ذوي الاختصاص للنقاش …

وسأواصل في هذه الحلقة، من ابعاد القصة ، البحث عن المآلات السياسية التي قد تنتج عن المواجهة الندية التي أبداها المقاومون الفلسطينيون للجيش الإسرائيلي المدعوم بدون شرط او قيد من الجيش الأمريكي.

من بين كل الاختيارات التي كانت مطروحة، قرر المسئولون الإسرائيليون خيار الإبادة الجماعية لساكنة غزة، على اعتبار ان الصراع بين شعب الأنوار والحداثة من جهة وحيوانات بشرية من جهة اخرى… وعليه:

أكيد أن كل مناطق الحرب مروعة، لكن غزة تمثل جحيما فريدا من نوعه. جزء كبير من الجيب الذي يبلغ عدد سكانه 2 مليون نسمة أصبح الآن ساحة معركة، حيث يختلط المدنيون والمقاتلون، وتوجد المنازل والمؤسسات جنبا إلى جنب مع البنية التحتية العسكرية. لا يوجد مكان يمكن الشعور فيه بهذه الحقيقة بشكل أكثر حدة مما هي عليه مستشفيات المنطقة، التي أصبحت في الوقت نفسه ملاذات آمنة وأهدافا محتملة، وحيث يتم قياس تأثير الهجوم الإسرائيلي بالأرواح التي تغتال كل ساعة.

لأول مرة في التاريخ، يشهد العالم جريمة ضد الإنسانية على الهواء مباشرة، على شاشة التلفزيون. جريمة تقوم بها الولايات المتحدة وإسرائيل في غزة.

تقديم: هل ستتحملان مسؤولية افعالهما مستقبلا؟.

وفي كل مكان، باستثناء أوروبا، يقوم حلفاء واشنطن بسحب سفرائهم من تل أبيب… ما يحدث يذكرنا بأحداث تفكك الاتحاد السوفييتي، هل سينتهي بهما الأمر الى نفس المآل؟، هل الإمبراطورية الأمريكية مهددة بوجودها؟. وأخيرا هل العملية التي بدأت أمام الجميع يوم 7 أكتوبر 2023 لا يمكن إيقافها؟.

ولمدة منذ الانتهاء من آخر مقال في الموضوع ركزت على جمع صور وشرائط المذابح  البشعة التي يتعرض لها المدنيون في غزة، كما شاهدنا مشاهد لأحداث إضرار للمباني بإسرائيل…. وتساءلت عن وجوب الحديث عن التحركات العسكرية والخطط والأهداف والنتائج المؤقتة، ام محاولة الثبات في تتبع الخيط السياسي الذي يحرك الأمور من خلف الستار؟ ومن ثم محاولة توثيق الأحداث المحيطة والمآلات التي يمكن ان تصل إليها التطورات؟

2- انعكاسات حرب غزة على الواقع السياسي الإسرائيلي والأمريكي:

تعرف إسرائيل والولايات المتحدة انقسامات عميقة بسبب مأساة سكان غزة. ولأول مرة في التاريخ، يشاهد المواطنون مدنيون يقتلون على نطاق واسع ومشاهد ذلك تبث على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون.

في كل مكان – باستثناء أوروبا – يتحد اليهود والعرب للتعبير عن آلامهم والدعوة إلى السلام.

ويدرك الناس في كل مكان أن هذه الإبادة الجماعية لن تكون ممكنة إذا لم تزود الولايات المتحدة الجيش الإسرائيلي بالقنابل، وبعضهم يتحدث عن الجنود، ويحين بشكل مستمر ومباشر.

وفي كل مكان، تستدعي الدول سفراءها من تل أبيب،  ونتساءل عما إذا كان ينبغي لها أن تستدعي سفرائها في واشنطن كذلك؟.

قد لا نحتاج لدليل على أن الولايات المتحدة لم تقبل هذا المشهد إلا على مضض، لكن ما هو معروف بشكل رسمي أنها لم تسمح به فحسب، بل جعلته ممكنا بالقوة – لحد الآن يتمثل في NOT DO IT !.

هل يفعلون ذلك لأنهم يخشون فقدان قوتهم بعد هزيمتهم في سوريا، وهزيمتهم في أوكرانيا، وربما قريباً هزيمتهم في فلسطين؟.

سؤال نظري، يبدو متحيزا، لكن حين نعكسه على الواقع، يتضح انه في حال لم تعد جيوش الإمبراطورية الأمريكية تخيف الشعوب، فمن سيستمر في إجراء المعاملات بالدولار بدلاً من عملته الوطنية؟

وفي هذا الاحتمال، كيف ستجعل واشنطن الآخرين يدفعون ثمن ما تنفقه، وكيف ستحافظ الولايات المتحدة على مستوى معيشتها؟

3- ماذا سيحدث في نهاية هذه القصة؟

سيتذكر التاريخ أن الرئيس جو بايدن كان أول من دعا إلى التخلي عن الخياران اللذان خططت لهما اسرائيل. فكرة الترحيل نحو مصر، أو، إذا فشلت في ذلك، استئصال الشعب الفلسطيني من على وجه الأرض…

وأن تل أبيب لم تمتثل لدعوات بايدن، ولازالت إسرائيل تنفذ الإبادة الجماعية على الارض وتسعى الى اغراء مصر لاستقبال الغزاويين في شمال سيناء،  حيث قالت وكالة “بلومبرغ” إن الاتحاد الأوروبي يسرع وتيرة جهوده لتعميق علاقاته مع مصر، ومساعدتها على التعامل مع التداعيات المتفاقمة في الصراع في قطاع غزة على حدودها. وقالت مصادر مصرية مطلعة لـ”اليوم السابع” إن هناك اتصالات مكثفة تجريها الدولة المصرية لنقل الأطفال حديثي الولادة من مستشفيات قطاع غزة إلى مصر “حفاظا على حياتهم”.

ويذكر التاريخ، انه وعندما صوتت الأمم المتحدة لصالح إنشاء دولتين فيدراليتين في فلسطين، واحدة عبرية والأخرى عربية، قامت القوات المسلحة الاسرائيلية باعلان نفسها كدولة يهودية حتى قبل تحديد حدودها. وقام “اليهود المتفوقون” على الفور بطرد ملايين الفلسطينيين من منازلهم (“النكبة”) واغتالوا الممثل الخاص للأمم المتحدة الذي جاء لإنشاء دولة فلسطينية. وسرعان ما تم القضاء على الجيوش العربية السبعة (المملكة العربية السعودية ومصر والعراق والأردن ولبنان وسوريا واليمن الشمالي) التي حاولت معارضتهم.

واليوم، يتصرف “المتعصبون اليهود” كما فعل اسلافهم سنة 1948. ولم يعودوا يطيعون حُماتهم ويرتكبون المجازر مرة أخرى، دون أن يدركوا أن العالم يراقبهم هذه المرة.

وسيشهد التاريخ انه في اللحظة التي اعترف فيها الشيعة بمبدأ الدولة العبرية، نشهد غلو القادة الاسرائليين حتى بات جنونهم يعرض وجود هذه الدولة للخطر.

قد تكون المقارنة غير مناسبة من وجهة نظر البعض، لكنها قد تفسر لنا أسباب السقوط المدوي والمفاجئ لبعض الدول التي تصاب بالغرور، لنتذكر كيف انهار الاتحاد السوفيتي. لم تكن الدولة قادرة على حماية أو انقاذ مواطنيها أثناء وقوع حادث كارثي. توفي 4000 سوفيتي في محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية (1986).

بعد الحادث المأساوي ساءل الناجون أنفسهم لماذا يستمرون في قبول نظام استبدادي غير قادر على حمايتهم؟ ونذكر انه بعد 69 عامًا من ثورة أكتوبر. كتب السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفييتي، ميخائيل جورباتشوف، أنه عندما رأى هذه الكارثة أدرك أن نظامه مهدد بالانهيار.

ثم جاءت أعمال الشغب في ديسمبر في كازاخستان، ومظاهرات الاستقلال في دول البلطيق وأرمينيا. مما حث  جورباتشوف لتعديل الدستور لإزالة الحرس القديم من الحزب. لكن إصلاحاته لم تكن كافية لوقف الحريق الذي امتد إلى أذربيجان وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا وبيلاروسيا.

كما أدت انتفاضة الشيوعيين الشباب في ألمانيا الشرقية ضد عقيدة بريجنيف إلى سقوط جدار برلين (1989).

وأدى انهيار السلطة في موسكو إلى وقف المساعدات للحلفاء، بما في ذلك كوبا (1990).

وأخيرًا، تم حل حلف وارسو وتمزيق الاتحاد السوفياتي (1991).

والنتيجة، في ما يزيد قليلاً عن 5 سنوات، انهارت الإمبراطورية التي اعتقد الجميع أنها ستكون أبدية لكونها “البديل التاريخي” للرأسمالية.

لقد بدأت هذه العملية الحتمية للتو بالنسبة لـ “الإمبراطورية الأمريكية”. والسؤال ليس إلى أي مدى سيذهب “الصهاينة التحريفيون” التابعون لبنيامين نتنياهو، بل إلى أي مدى سيدعمهم الإمبرياليون الأمريكيون؟.

عند أي نقطة ستعتبر واشنطن أنها ستخسر الكثير إذا سمحت بقتل المدنيين الفلسطينيين بدلاً من تصحيح القادة الإسرائيليين؟

في مشهد هو الآخر يتغير أمام أنظار الحكام في الولايات المتحدة، وهي تقف مكتوفة الأيدي وقد يكون له دور في انهيارها خارجيا. ويتعلق الأمر بأحداث أوكرانيا.

لقد فشل الهجوم العسكري المضاد الذي شنته حكومة فولوديمير زيلينسكي. ومن الآن فصاعدا، لن تسعى  روسيا إلى تدمير الأسلحة الأوكرانية، التي يتم استبدالها على الفور بالأسلحة التي تقدمها واشنطن، بل ستسعى إلى قتل من يستخدمها.

تتصرف الجيوش الروسية مثل آلة طحن عملاقة تقتل ببطء وبلا هوادة جميع الجنود الأوكرانيين الذين يقتربون من خطوط الدفاع الروسية. حتى باتت كييف غير قادرة على حشد المقاتلين، ويرفض جنودها الانصياع للأوامر التي تحكم عليهم بالموت المحقق.

والحدثان مرتبطان، حيث يتحدث العديد من القادة الأمريكيين والأوكرانيين والإسرائيليين بالفعل عن استبدال التحالف “القومي المتكامل” الأوكراني وتحالف “التفوق اليهودي”، لكن فترة الحرب قد لا تسمح بذلك. لكن عاجلا ام آجلا، سوف يتعين عليهم القيام به.

وهنا يبدو ان المقارنة بين الإمبراطورية السوفياتية والإمبراطورية الأمريكي مفيدا، حيث يذكر التاريخ ان رئيس الوزراء ميخائيل جورباتشوف اضطر  إلى استبدال ممثله القاسي في كازاخستان، مما مهد الطريق لاحتجاجات واسعة النطاق ضد القادة الفاسدين. فهل يتعين على الرئيس جو بايدن أن يغير دميته الأوكرانية وحلفائه الإسرائيليين… وقد يحدث بعد إزاحة زيلينسكي ونتنياهو، أن يعلم الجميع أنه من الممكن الحصول على رأس ممثل واشنطن، لذا لا خيار أمام الشخصين الآن، إما الانتصار أو الفرار قبل أن يتم التضحية بهما.

وهذه العملية ليست مستعجلة فحسب، بل حتمية، والرئيسان يعلمان ذلك جيدا. ويمكن للرئيس جو بايدن أن يفعل كل ما في وسعه لإطالة عمرهما في السلطة، لكنه لن يتمكن من إيقاف هذه الحتمية.

كما يتعين على الشعوب والقادة الغربيين الآن أن يتخذوا مبادرات للخروج من هذه الفوضى، وعدم تتبع الاحداث بحذر في انتظار التراجع الامريكي الذي لن يأتي، ولنا في هذا الصدد مثال صارخ ، حيث انتظرت كوبا تراجع الولايات الامريكية في موقفها القاضي بمحاصرتها وفرض عقوبات قاسية نحو شعبها، وعاشت الحرمان في يعرف داخليا ب “الفترة الخاصة” التي مرت بها.

يعلم الجميع أن آخر الهاربين يدفع الفاتورة بدلا عن الجميع… وقد بدأت العديد من الدول في “بقية العالم” بالفرار بالفعل من مظلة الحلف الغربي وبعضهم يستعد لدخول “البريكس” أو منظمة “شنغهاي للتعاون”.

وكما وقع للامبراطورية السوفياتية التي اضطرت إلى الانفصال عن دول البلطيق، يتعين على الامبراطورية الامريكية الاستعداد للانتفاضات الداخلية اولا. وعندما لن يتمكنوا من فرض الدولار في التجارة الدولية مما سيؤدي حتما الى انهيار مستوى معيشتهم، سترفض المناطق الفقيرة الانصياع بينما سيحصل الأغنياء على استقلالهم، بدءاً بجمهوريتي تكساس وكاليفورنيا (الوحدتين اللتين، وفقاً لـ المعاهدات، لها الإمكانية القانونية). ومن المرجح أن يؤدي تفكك الولايات المتحدة إلى نشوب حرب أهلية هناك.

إن اختفاء الولايات الامريكية سيؤدي إلى اختفاء حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وسوف تجد ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة انفسهم وجهاً لوجه مع منافساتهم القديمة، بعد أن فشلن في الرد عليها عندما كان الوقت مناسباً.

خاتمة:

 الذين يحاربون ضد منحى التاريخ سوف يتسببون في حروب ووفيات لا داعي لها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى