شغف وإرادة: مسيرة محمد برادة الرائدة في الصحافة المغربية

مكناس- 15 يونيو 2025
في إطار الجمع العام العادي لفرع الفيدرالية المغربية لناشري الصحف بجهة فاس-مكناس، الذي انعقد في مدينة مكناس يومي 14 و15 يونيو 2025، احتضنت المدينة ندوة تكريمية مميزة للكاتب والصحفي المخضرم محمد عبد الرحمن برادة بمناسبة توقيع كتابه “شغف وإرادة: رهان في الإعلام والثقافة والسياسة”. جمعت الندوة، التي أقيمت يوم 15 يونيو، نخبة من الصحفيين والمثقفين للاحتفاء بمسيرة برادة المهنية والإنسانية، التي شكلت علامة فارقة في تاريخ الصحافة المغربية.
في حفل توقيع كتابه “شغف وإرادة: رهان في الإعلام والثقافة والسياسة”، احتفى المشهد الثقافي المغربي بالكاتب والصحفي المخضرم محمد عبد الرحمن برادة، الذي وثّق في هذا العمل سيرة مهنية وحياة حافلة بالإنجازات والتحديات. الكتاب، الذي صدر باللغتين العربية والفرنسية، ليس مجرد سيرة ذاتية، بل وثيقة تاريخية تتقاطع مع تحولات المغرب الحديث، وتطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل الصحافة في ظل التحولات الرقمية.
ولد محمد برادة عام 1941 في مدينة وجدة، حيث تشبع بقيم الوطنية والأخلاق. بعد حصوله على شهادة البكالوريا ودبلوم اللغة العربية من معهد الدراسات العليا بالرباط، بدأ مسيرته كمدرس للغة العربية، لكنه سرعان ما اقتحم عالم الصحافة. كتب مقالات تحت اسم مستعار “أبو دبيلة” في جريدة “المحرر”، قبل أن ينضم إلى شركة “سوسبريس”، وهي مؤسسة موروثة من الحقبة الاستعمارية كانت تخدم الصحافة الأجنبية على حساب الوطنية. هذا التناقض أثار صراعًا داخليًا لدى برادة، دفعه لترك الشركة وتأسيس “سابريس” عام 1977، فيما وصفه بـ”مغامرة العمر”.
انطلقت “سابريس” بإمكانيات متواضعة من “جراج”، بشراكة مع أبرز مكونات الصحافة الوطنية مثل “المحرر”، “ليسيوم”، “البيان”، و”العلم”. وتحت شعار “جريدة لكل مواطن”، ساهمت الشركة في مضاعفة مبيعات الصحف الوطنية، دعم القراءة، ونشر اللغة العربية. كما فتحت أبواب المغرب أمام الصحافة العربية، مثل الجرائد العراقية والكويتية، ووسعت شبكة التوزيع لتشمل الأقاليم الصحراوية رغم التحديات اللوجستية.
لم تقتصر “سابريس” على التوزيع، بل أصبحت فضاءً ثقافيًا يحتضن الندوات واللقاءات الفكرية، وساهمت في توزيع كتب بارزة مثل “ذاكرة ملك”. ورغم تأسيسها بدعم الصحافة الحزبية، شجع برادة الصحافة المستقلة، مقدمًا قروضًا حسنة لصحف ناشئة مثل “الأيام”، وساند الصحافة الجهوية مثل “أخبار العيون” و”الشرق”. هذه الجهود كسرت احتكار توزيع الصحف، وجعلت من “سابريس” رمزًا للالتزام بالهوية الوطنية.
لم يقتصر طموح برادة على التوزيع، بل امتد إلى تطوير الإعلام العمومي وتنظيم المهنة. قدم مقترحات لتحسين الصحافة في العهد الجديد، لكن بعضها ظل حبرًا على ورق. كما لعب دورًا بارزًا في لجنة أخلاقيات المهنة بالقناة الثانية، حيث قدم تقريرًا مفصلًا شكل أساسًا لعمل اللجنة لسنوات. وامتدت علاقاته الدولية عبر اتحاد الموزعين العرب، مما عزز حضور المغرب في المشهد الإعلامي العربي والأوروبي.
في كتابه، يعبر برادة عن قلقه إزاء “تردي” الصحافة المغربية، مشيرًا إلى “أزمة أخلاق” و”هشاشة” في الأوضاع. يرى أن الصحافة اليوم، رغم الحرية والدعم المالي، تفتقر إلى الحضور الذي كانت تتمتع به في فترات سابقة. ويحذر من ارتفاع تكلفة الورق وندرته، معتبرًا الصحافة الإلكترونية مستقبل المهنة، مع دور مكمل للصحافة الورقية.
إلى جانب إسهاماته المهنية، يبرز الكتاب الجانب الإنساني لبرادة، الذي كان يدعم زملاءه ماديًا ومعنويًا، ويحرص على عائلته وأصدقائه. كما يسلط الضوء على دوره الرياضي كرئيس سابق للجامعة الملكية المغربية لكرة السلة، حيث ساهم في اكتشاف مواهب مثل مكزوار وحشاد.
حظي برادة بتقدير واسع، حيث حصل عام 2003 على أول جائزة وطنية كبرى للصحافة، ونال وسامًا ملكيًا عام 2004. ويُنظر إلى كتابه كوثيقة تاريخية و”نبراس” للأجيال الصحفية، حيث دعا البعض إلى تدريسه للشباب. يعكس “شغف وإرادة” فلسفة حياة برادة، الذي يرى أن الحب الكبير (الشغف) والتصميم الواعي (الإرادة) هما سر النجاح.
كتاب “شغف وإرادة” ليس مجرد سرد لمسيرة فرد، بل مرآة تعكس تاريخ الصحافة المغربية وتحدياتها. من خلال تجربته، يلهم برادة الأجيال الجديدة لمواجهة التحولات الرقمية بروح الشغف والإرادة، مع التمسك بأخلاقيات المهنة. إنه تكريم مستحق لرمز من رموز الإعلام المغربي، ودعوة لاستخلاص الدروس من مسيرة حافلة بالتضحيات والإنجازات.