القوة الناعمة: إرث فينيقي، مسار صيني، وادعاء أمريكي
في عالم تتصارع فيه القوى على النفوذ، يبرز مفهوم “القوة الناعمة” كسلاح استراتيجي يتجاوز القوة العسكرية والاقتصادية التقليدية. يُنسب هذا المصطلح عادةً إلى الأكاديمي الأمريكي جوزيف ناي، لكن الحقيقة التاريخية تكشف أن جذوره تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، إلى عبقرية الفينيقيين الذين نشروا أبجديتهم عبر حوض المتوسط دون حروب استعمارية، وصولاً إلى الصين التي أتقنت هذا الفن بذكاء استراتيجي مدهش. في هذا المقال، نستكشف كيف تحولت القوة الناعمة من إرث حضاري إلى أداة سياسية، وكيف أخطأت الولايات المتحدة في فهمها، بينما نجحت الصين في توظيفها لإعادة تشكيل النظام العالمي.
الفينيقيون: رواد القوة الناعمة الأوائل
قبل آلاف السنين، أسس الفينيقيون نموذجاً حضارياً فريداً للنفوذ. لم يعتمدوا على السيف أو الجيوش، بل على التجارة، التبادل الثقافي، ونشر المعرفة عبر أبجديتهم التي شكلت أساساً للحضارات اللاحقة. كما يشير المفكر اللبناني-السوري يوسف أشقر، كانت رؤيتهم الفينيقية تقوم على مبدأ “الآخر ليس عدواً، بل شريكاً”. هذا النهج، الذي يمكن اعتباره أول تجليات القوة الناعمة، بنى جسوراً بين الأمم وأرسى قواعد التعاون المتبادل. لكن، للأسف، يبدو أن هذا الإرث قد ضاع في المنطقة العربية، حيث رفض لبنان، مثلاً، عرضاً صينياً سخياً لإعادة إعمار ميناء بيروت وتحويله إلى مركز تجاري إقليمي، مفضلاً الانصياع لضغوط القوى الغربية التي ساهمت في تدميره.
الصين: القوة الناعمة كاستراتيجية تحرر
على عكس التصور السائد، لم تكن الولايات المتحدة رائدة القوة الناعمة، بل كانت الصين من أوائل من أتقنوا فنها. في عام 1946، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تُختتم، فاجأ ماو تسي تونغ الجنرال الأمريكي جورج مارشال بعرضٍ صادم: الرغبة في التعلم من النموذج السياسي الأمريكي، بل وحتى زيارة واشنطن للقاء الرئيس روزفلت. كان هذا العرض، الذي نقله تشو إن لاي بلباقة دبلوماسية، محاولة صينية لفتح قنوات حوار وتعاون، لكنه قوبل برفض أمريكي متعجرف، تجسد في موقف إليانور روزفلت التي أصرت على دعم الزعيم القومي تشيانغ كاي شيك.
لم تتوقف الصين عند هذا الرفض. في سبعينيات القرن الماضي، ومع تولي دينغ شياو بينغ السلطة، أطلقت الصين استراتيجية جديدة للقوة الناعمة. زار دينغ الولايات المتحدة مرتدياً قبعة رعاة البقر، مبتسماً بثقة، في خطوة رمزية أذهلت الأمريكيين الذين ظنوا أن الصين قد “استسلمت” لنفوذهم. لكن الواقع كان مختلفاً تماماً. لم تكن الصين تقلد الغرب، بل كانت تستخدم أدواته الثقافية والاقتصادية لتعزيز مصالحها الوطنية. اليوم، تتجلى نتائج هذه الاستراتيجية في تفوق الصين العلمي، التكنولوجي، والاقتصادي، وفي مشروعها الطموح “الحزام والطريق” الذي يعيد رسم خريطة التجارة العالمية.
الولايات المتحدة: سوء فهم القوة الناعمة
في المقابل، فشلت الولايات المتحدة في استيعاب جوهر القوة الناعمة. بدلاً من بناء جسور التعاون، اعتمدت واشنطن على التهديدات العسكرية، العقوبات الاقتصادية، والهيمنة الثقافية عبر هوليوود ووسائل الإعلام. يعكس هذا النهج رؤية استعمارية ترى “الآخر” كخصم يجب إخضاعه، لا كشريك محتمل. من العراق إلى أفغانستان، ومن الحروب التجارية مع الصين إلى العقوبات على روسيا، تُظهر السياسة الأمريكية نزعة عدوانية بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية الناعمة. حتى عندما حاولت واشنطن فتح قنوات مع الصين في عهد نيكسون، كشفت زيارة كيسنجر عن جهل عميق بالثقافة الصينية، مما اضطرها إلى الاستعانة بالكاتب الفرنسي أندريه مالرو لفهم تعقيدات السياسة الصينية.
العالم العربي: غياب الإرادة وتكرار النكبات
في خضم هذا الصراع بين نماذج القوة الناعمة، يقف العالم العربي متفرجاً، غارقاً في أوهام السلام والعدالة، كما يحذر الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في قصيدته الخالدة. يرى الشابي أن “السلام كذبة وهمية، والعدالة فلسفة رماد”. في ظل استمرار النكبة الفلسطينية منذ 1948، يبدو العالم العربي عاجزاً عن مواجهة التحديات الوجودية التي تهدد هويته وكرامته. بدلاً من استلهام نموذج الصين في التحرر الوطني والتنمية الذاتية، يظل العرب أسرى الانقسامات والتبعية، رافضين حتى المبادرات التنموية مثل العرض الصيني لإعادة إعمار ميناء بيروت.
الصين وروسيا: تحالف من أجل عدالة عالمية
في المقابل، تُظهر الصين نموذجاً مغايراً. خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ إلى روسيا في مايو 2025، بمناسبة الذكرى الـ80 لانتصار الاتحاد السوفييتي على النازية، أكد الزعيمان الصيني والروسي التزامهما بـ”بناء نظام عالمي عادل” والدفاع عن الحقيقة التاريخية. هذا التحالف، الذي يجمع بين قوتين عظميين، يعكس رؤية تقوم على التعاون والتنمية المشتركة، بعيداً عن منطق الهيمنة. وفي حين تستمر الولايات المتحدة في شن حروبها لإحباط مشروع “الحزام والطريق”، تواصل الصين توسعها السلمي عبر الاستثمارات والدبلوماسية.
دعوة للاستفاقة العربية
إن القوة الناعمة ليست مجرد أداة سياسية، بل فلسفة حضارية تقوم على التعاون والاحترام المتبادل. الفينيقيون أسسوا لها، والصين أتقنتها، بينما أساءت الولايات المتحدة فهمها. أما العالم العربي، فيقف على مفترق طرق: إما أن يستلهم دروس التاريخ ويتبنى استراتيجية تحرر وتنمية، أو أن يستمر في تكرار النكبات. كما يقول الشابي: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة…”. حان الوقت للعرب أن يقرروا: هل سيظلون أسرى الهوان، أم سينهضون لاستعادة كرامتهم ومكانتهم في العالم؟