محمد ناصر: صوت المعارضة الذي رفض أن يكون مجرد رقم

يُعدّ الإعلامي المصري محمد ناصر واحدًا من الأصوات البارزة في المشهد الإعلامي المعارض، حيث شكّل مسيرته المهنية والشخصية مزيجٌ فريد من الصدفة، الموهبة، والموقف السياسي الحاد. من خلال حوارٍ طويل في بودكاست، كشف ناصر عن جوانب حياته، بداية من نشأته البسيطة وصولًا إلى دوره كإعلامي معارض في المنفى، معبرًا عن حبه العميق لمصر ورفضه القاطع للنظام الحاكم.
هذا المقال يروي قصة حياة ناصر، مسيرته الإعلامية، وفلسفته التي تجمع بين الاستقلالية والإيمان بأن لكل إنسان دورًا يجب أن يترك بصمته في الحياة.
ولد محمد ناصر في بيئة متواضعة، نشأ بين القاهرة الفاطمية والصعيد في مدينة الفشن بمحافظة بني سويف. هذا التنوع الثقافي شكّل شخصيته؛ ففي حي الحسين بالقاهرة، أحب التاريخ المملوكي والفاطمي، بينما غرس الصعيد فيه قيم الأصول والاحترام.
كونه الطفل الرابع في عائلة كبيرة، شعر بأنه “المنسي”، وهو ما يصفه بأنه ميزة سمحت له بتكوين عالمه الخاص وتنمية خياله. ورث موهبة الرسم والخط من عمه وأخيه الأكبر، لكن مساره التعليمي لم يكن مخططًا. بعد مجموعه المنخفض في الثانوية العامة، التحق بكلية الفنون الجميلة قسم النحت في المنيا “رغمًا عنه”، نتيجة ظروف خارجة عن إرادته، من فشل في امتحان القدرات إلى تدخل عميد الكلية لقبوله.
لم يكن دخول ناصر عالم الإعلام قرارًا مدروسًا. بدأ مسيرته كشاعر، ثم كاتب سيناريو، حيث شارك في كتابة أفلام حازت جوائز مثل “هارج ومرج” مع المخرجة نادين خان. لكن نقطة التحول جاءت عندما عرض فكرة برنامج على منتجة تعمل مع رجل الأعمال نجيب ساويرس، الذي اختاره لتقديم برنامج تلفزيوني.
هكذا وجد ناصر نفسه في عالم الإعلام، حيث طوّر مهاراته بسرعة رغم بدايته المتأخرة. لكنه سرعان ما أظهر نزعة تمرد واستقلالية، كما حدث عندما شتم المشير طنطاوي على الهواء، مما أدى إلى إيقاف برنامجه، أو عندما استقال من منصبه كمدير لقصر ثقافة 6 أكتوبر بعد ضغوط من أمن الدولة.
جاءت أحداث 2013 كنقطة فاصلة في حياة محمد ناصر. بعد ثورة يناير 2011، التي عاد إليها من قطر بعد أربعة أيام فقط بسبب شوقه لمصر، أبدى رفضًا مبكرًا لترشح جماعة الإخوان المسلمين للرئاسة. لكنه انتخب حمدين صباحي في الجولة الأولى والرئيس محمد مرسي في الجولة الثانية، معترفًا لاحقًا بأنه “أخطأ” في هذه الاختيارات.
موقفه من عبد الفتاح السيسي كان حادًا؛ فهو لا يعتبره رئيسًا شرعيًا، واصفًا وصوله إلى السلطة بـ”الانقلاب العسكري”، ومشيرًا إلى أن السيسي “خان ولي نعمته” مرسي. هذا الموقف دفع ناصر إلى مغادرة مصر عام 2013 بعد توقف برامجه وتعرضه لمضايقات، ليستقر في تركيا حيث عمل مع قناة “مكملين”.
عاش ناصر في تركيا لمدة عشر سنوات، واصفًا إياها بأنها “خيرة عليه” ومقدرًا احترام الحكومة التركية له. لكنه أكد أن الأتراك لم يضغطوا عليه للحديث أو الصمت، باستثناء قيود لاحقة على قناة “مكملين” بعد تحسن العلاقات بين تركيا ومصر.
رفض ناصر فكرة الصمت، مؤكدًا أن حريته في التعبير هي معياره الأساسي. نفى بشكل قاطع أن تكون قنوات المعارضة ممولة من دول أجنبية مثل قطر أو تركيا، مشيرًا إلى أن التمويل يأتي من “مصريين وعرب يحبون مصر إلى درجة العبادة”، مستشهدًا بقصة شخص باع منزله لدعم القناة. هذا الحب لمصر، الذي وصفه بأنه “أفيونة”، كان الدافع وراء استمراره في العمل الإعلامي رغم التحديات.
يمتلك ناصر رؤية نقدية حادة للإعلام المصري. يصف الإعلام الموالي للنظام بأنه “مطبلاتي”، فاقد للمهنية والشرف، ويخدم “مشاهدًا واحدًا” (السلطة). يرفض مقارنته بإعلام المعارضة، الذي يراه جهدًا صادقًا لخدمة مصر، رغم افتقاره للإمكانيات.
ينتقد شخصيات مثل عمرو أديب وأحمد موسى، واصفًا الأول بأنه “مطبلاتي” يعمل لمن يدفع، والثاني بأنه “كذاب وسافل”. في المقابل، يعترف بموهبة باسم يوسف كرائد للسخرية السياسية، لكنه يختلف معه في التوجهات السياسية.
فلسفة ناصر الشخصية تتمحور حول رفض أن يكون “رقمًا”. منذ طفولته، شعر بأنه “المنسي”، لكنه حول ذلك إلى ميزة لبناء عالمه الخاص. في نهاية المقابلة، أكد: “أهم حاجة إني ما جيتش رقم”، موضحًا أن كل إنسان لديه دور يجب أن يؤديه، وأن قيمته تكمن في ترك بصمة. هذه الفلسفة عكستها مواقفه الجريئة، سواء في رفضه للمساومة أو استمراره في التعبير عن رأيه رغم المخاطر.
حب ناصر لمصر يتجاوز النقد السياسي. يصف مصر بأنها “بلد تتحب”، ويروي شوقه لها خلال إقامته في قطر أثناء ثورة يناير، حيث عاد بعد أربعة أيام فقط. يعبر عن ارتباطه العاطفي بالقاهرة وشوارعها، ويؤكد: “هموت وأرجع مصر”، رغم الأحكام القضائية والمضايقات التي تمنعه من العودة في ظل النظام الحالي. يرى أن مصر “مخطوفة” بالقوة، ويعمل من أجل أن “تقوم كبلد محترم”.
محمد ناصر ليس مجرد إعلامي معارض، بل صوت يعكس تناقضات المجتمع المصري وتحدياته. من نشأة متواضعة إلى دخول الإعلام بالصدفة، ومن تمرد على السلطة إلى المنفى في تركيا، شكّلت مواقفه الجريئة واستقلاليته مسيرة مهنية غير تقليدية.
رغم اعترافه بأخطاء في حياته، إلا أنه لا يندم، مؤمنًا بأن الحياة لا تُعاش بالتخطيط بل بالاستمرار في أداء الدور المطلوب. حبه العميق لمصر ورفضه أن يكون “رقمًا” يجعلانه رمزًا للصمود والتحدي، وصوتًا لا يزال يبحث عن مصر التي يحلم بها.