عندما تحاكم السماء الأرض… “مؤتمر الأنوار” بين السخرية الأليمة والأمل الملغوم

براعة الكاتب: الصديق معنينو من محراب الإعلام إلى سماء النقد

في زمن تُطمس فيه الحقائق، وتُحرف فيه التضحيات، يأتي صوت الصديق معنينو ليشق العتمة بنصٍ فريدٍ هو بمثابة زلزال روحي.

مؤتمر الأنوار” ليس مجرد سرد خيالي لاجتماع شهداء في السماء السابعة، بل هو مرآة مقعّرة للواقع، تعكس قبح الاستغلال السياسي، ومرارة الخذلان، وتُعلي من شأن العدالة المطلقة، حتى لو كانت قادمة من عالم الأرواح.

يبدأ النص بصورة شعرية مهيبة: “أرواح تلتقي بعيداً عن زيف الأرض وخداع حكامها“. هذه الافتتاحية ليست مجرد جملة عابرة؛ إنها تحديد دقيق لمسرح الأحداث، حيث تختلف المعايير، وتتعرى الحقائق. في هذه السماء الصافية، تتكشف أولى الصدمات: العدد الحقيقي للشهداء، والذي يطرح السؤال الوجودي المؤلم: “أين بقيّة من زُعم أنهم ماتوا في سبيل الوطن؟ هل اختلطت دماء الضحايا بدماء الجلادين؟” هنا، يلمس معنينو، بصفته صحافياً عايش تقلبات المشهد السياسي، جرحاً غائراً في الوعي الجمعي، وهو التلاعب بالأرقام والحقائق التاريخية، والتداخل المروع بين التضحية والجريمة.

هذا التساؤل ليس مجرد جملة، بل هو اتهام مباشر للمسؤولين عن هذا الالتباس.

يتحول المؤتمر إلى محكمة سماوية، حيث يُمثل الرؤساء السابقون أمام أرواح من ضحوا من أجل “الكرامة والحرية”. رفض المؤتمر لأولئك الذين “أضروا بالثورة، سجنوا رفقاءهم، ودخلوا في عنادٍ سياسي عقيم” هو تجريم صريح للفشل السياسي والخيانة الثورية. أما مشهد الرئيس صاحب “العشرية الدموية”، الذي سقط فيها مئات الآلاف، فيجسد فظاعة الطغيان بوضوح مؤلم. قرار المؤتمر اعتبار قتلى تلك العشرية “شهداء” وحرمانهم من التصويت لأنهم كانوا “ضحايا وليسوا فاعلين” هو تمييز حاد بين الضحية والشهيد الواعي، وإشارة إلى ضرورة الوعي بالدور في صناعة المصير. الوعود بـ”ملاحقة القتلة وتقديمهم لمحاكمة ربانية بمساعدة من الملائكة” يفتح باب الأمل في عدالة لا يمكن الفرار منها.

تأتي قمة السخرية السياسية مع دخول “الرئيس الذي جاء على كرسي متحرك”، مدعياً الخداع والنية الحسنة، وأن ولايته الخامسة كانت “رغبة شعبية”. هذا المشهد، الذي يجسد وقاحة السلطة المدعية للبراءة، يتم التعامل معه بـرفض قاطع وساخر من قبل الشهداء، الذين يحيلونه للمحاكمة.

هنا، يسقط القناع عن دكتاتورية تُلبس ثوب الشرعية الزائفة.

البرقية الواردة من “الدولة القوية” هي ذروة النقد الساخر الذي يميز أسلوب معنينو. ففيها، تتحول الطوابير إلى “ظاهرة إنسانية”، وشراء الأكباش إلى “مبادرة جيدة”، وتطويق البلاد إلى “مؤامرة خارجية”. هذا الخطاب، الذي ينضح باللامنطق والمغالطات، ويختتم بطلب التصفيق وادعاء أنه “أحسن الرؤساء”، يتم الرد عليه بإيجاز موجع: “يُحال على المستشفى المختص”.

هذا الرد ليس مجرد سخرية، بل هو تشخيص قاسٍ لجنون العظمة الذي يصيب بعض القادة، وفقدانهم للاتصال بالواقع. إنها دعوة ضمنية للشعب بأن يعتبر هذا الخطاب “مرضاً” يستدعي العلاج، لا التصديق.

إن خيبة الأمل التي يعبر عنها أحد الشهداء: “شهادتنا تُمرّغ في التراب… أصبحنا سلعة يتاجر بها الوصوليون…” هي جوهر الرسالة النقدية للنص. إنها شكوى من استغلال التضحيات لأغراض سياسية دنيئة، وتحويل دماء الشهداء إلى “قميص يتزيّن به الطامعون”.

هذا الصوت يتردد صداه في كل مجتمع شهد ثورات وتضحيات ثم رأى ثمارها تُسلب.

في الختام، يأتي “صوت عظيم من السماء” ليبشر الشهداء بأن “ستتغير الأمور… سيرحل المتسلطون… ستتطهر الأرض…”. هذه النهاية، على الرغم من واقعيتها السحرية، تحمل جرعة أمل مشروطة. الصلاة وصرخة “مدنية وليست عسكرية” و”الصلاة حتى سقوط العسكر” ليست مجرد ابتهالات، بل هي تأكيد على إرادة التغيير السلمي ورفض الدكتاتورية العسكرية.

“الفرج قريب…” هي كلمة تعليق على واقع مرير يترقب فيه الشعوب العدل، حتى لو كان قادماً من السماء.

إن قدرة الأستاذ محمد الصديق معنينو على صياغة هذا النص ليست وليدة الصدفة. فكصحافي مخضرم أمضى سنوات طويلة في دهاليز الإعلام الرسمي ومفاصل وزارة الاتصال بالمغرب، أتيحت له فرصة فريدة لمراقبة صناعة القرار، والتعرف على كواليس السلطة، ومعاينة تداعيات السياسات على أرض الواقع. مسيرته المهنية الحافلة، التي شملت تغطية قمم عربية ودولية، وتمثيل المغرب في منتديات عالمية، وإجراء حوارات مع رؤساء دول وحكومات، قد منحته رؤية ثاقبة وغير ملوّثة لطبيعة المشهد السياسي.

إن تجربته كمسؤول عن اللجنة الوطنية لبطاقة الصحافة، ورئاسته للجنة تحديد تدخلات الأحزاب السياسية في الإذاعة والتلفزيون، جعلته شاهداً على المكائد السياسية التي تمارس باسم “الديمقراطية” أو “الإصلاح”. هذه المعرفة العميقة بآليات السلطة، سواء من الداخل أو من الخارج، تُمكّنه من صياغة نقد لاذع يضرب في صميم المشكلة، مستخدماً السخرية اللاذعة كأداة لكسر الحواجز وكشف الحقيقة.

في “مؤتمر الأنوار”، لا يتحدث معنينو كصحافي يلتزم الحياد، بل ككاتب يُفرغ خبرة عقود في قالب أدبي رمزي، مفعم بالغضب والأمل في آن واحد. إن الأوسمة التي حصل عليها، من وسام العرش إلى وسام المسيرة الخضراء، لا تحجب عنه بصيرته النقدية، بل ربما زادت من إحساسه بالمسؤولية تجاه الحقيقة. هذه القدرة على الجمع بين المعرفة المؤسسية والنقد الجريء هي ما يجعل من “مؤتمر الأنوار” ليس مجرد نص أدبي، بل بياناً سياسياً وثقافياً يُقدمه قلم خبير لا يخشى قول ما يختلج في صدور الكثيرين. إنها شهادة من شاهدٍ على العصر، يرفع صوته، ولو من خلال أرواح الشهداء، ليطالب بالعدل والكرامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!