نقاش : مشروع قانون المسطرة الجنائية بين الانفتاح والغموض

جيل24
مشروع قانون المسطرة الجنائية بالمغرب، المعروف برقم 03.23، والذي يعدّل القانون رقم 22.01، يشكل خطوة محورية نحو تحديث المنظومة القضائية الجنائية في البلاد. تمت المصادقة عليه من طرف مجلس الحكومة في غشت 2024، بعد نقاشات استمرت لأشهر، بهدف تعزيز الحقوق والحريات، مواكبة التحولات الإجرامية المعاصرة، وضمان محاكمات عادلة تتماشى مع التزامات المغرب الدولية.
ورغم الطموحات التي يحملها، فإن المشروع أثار جدلاً واسعًا بين الفاعلين القانونيين والحقوقيين بسبب نقاط قوته الملحوظة ونقاط ضعفه التي تحتاج إلى معالجة.
من جهة، يتميز المشروع بجملة من نقاط القوة التي تعكس رؤية إصلاحية.
أولاً، يعزز ضمانات حقوق المتهمين، حيث يقيّد استخدام التوقيف الاحتياطي بالحالات التي تبررها ضرورات التحقيق، مثل مخاطر التلاعب بالأدلة أو التهديد بالهروب، وهو ما ينسجم مع المعاهدات الدولية كالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي يلتزم بها المغرب. كما يقدم المشروع آلية حديثة تتمثل في التسجيل السمعي البصري للاستجوابات داخل مراكز الشرطة والدرك، مما يحد من الادعاءات بالتعذيب أو الإكراه ويعزز الشفافية، خاصة في ظل تقارير سابقة لمنظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” التي وثقت مثل هذه التجاوزات.
ثانيًا، يعمل على تحديث السياسة الجنائية من خلال تعزيز دور النيابة العامة، التي أصبحت تحت قيادة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، مما يضمن تنسيقًا أفضل بين المحاكم ويمهد لتطبيق موحد للقانون. وفي سياق مواكبة التطور التكنولوجي، يتضمن المشروع مقتضيات جديدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، مثل اختراق الأنظمة أو الاحتيال عبر الإنترنت، وهي جرائم شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة وفق إحصاءات وزارة العدل التي أشارت إلى تسجيل أكثر من 5000 قضية سنويًا مرتبطة بالفضاء الرقمي.
وأخيرًا، يسعى المشروع إلى تبسيط الإجراءات القضائية، مما يقلل من البطء المزمن في المحاكم الذي طالما شكل عائقًا أمام العدالة، حيث تظهر تقارير رسمية أن بعض القضايا تستغرق سنوات للحسم.
لكن على الجانب الآخر، يعاني المشروع من نقاط ضعف قد تعيق تحقيق أهدافه.
أولاً، يعتريه غموض في صياغة بعض المواد، مثل المادة 3 التي تحصر تقديم الشكايات المباشرة في جهات محددة دون تفاصيل واضحة، مما يثير مخاوف من تقييد دور الجمعيات الحقوقية في مكافحة الفساد، خاصة في ظل قضايا كبرى مثل اختلاس المال العام التي كشفتها تقارير المجلس الأعلى للحسابات في السنوات الأخيرة.
ثانيًا، يقلص المشروع من دور المجتمع المدني، وهو ما يراه منتقدون تراجعًا عن مبدأ التشاركية المنصوص عليه في دستور 2011، حيث كانت الجمعيات شريكًا أساسيًا في الدفاع عن الحقوق وكشف التجاوزات.
ثالثًا، يفتقر المشروع إلى التناسق مع القانون الجنائي المتعلق بالعقوبات، والذي لم يخضع بعد لمراجعة شاملة، مما قد يؤدي إلى تعارضات قانونية، كأن يتم تبسيط المسطرة دون تحديث العقوبات المرتبطة بها.
رابعًا، يواجه تحديات تنفيذية كبيرة، إذ يتطلب تطبيق التسجيل السمعي البصري أو مكافحة الجرائم الرقمية استثمارات ضخمة في التجهيزات والتكوين، بينما تعاني المحاكم من نقص في الموارد البشرية واللوجستية، حيث تشير إحصاءات رسمية إلى أن نسبة القضاة لكل 100 ألف نسمة لا تتجاوز 8، وهي من بين الأدنى في المنطقة.
وأخيرًا، يثير المشروع تساؤلات حول التوازن بين تعزيز الأمن وحماية الحريات، خاصة أن بعض المقتضيات قد تُفسر بطريقة تميل لصالح السلطات على حساب الفرد، وهو ما تفاقم بسبب محدودية النقاش العام حول المشروع قبل إقراره.
في الخلاصة، يمثل مشروع قانون المسطرة الجنائية فرصة لإرساء عدالة جنائية أكثر شفافية وكفاءة في المغرب، مستفيدًا من تعزيز الحقوق والتكيف مع التحديات المعاصرة. لكنه يحتاج إلى تجويد صياغته، تعزيز التنسيق مع القوانين الأخرى، وإشراك أوسع للمجتمع المدني لضمان تحقيق أهدافه دون المساس بالحريات. نجاحه الفعلي مرهون بمدى توفير الدولة للموارد اللازمة، وإرادتها في تطبيق هذه الإصلاحات بعيدًا عن العراقيل البيروقراطية والتأويلات الضيقة.