مأزق التنظيم الذاتي للصحافة المغربية: قراءة في مقال يونس مجاهد حول اخلاقيات المهنة أو سقطُ المتاع

الرباط، 22 ماي 2025

في مقال نشره اليوم رئيس اللجنة المؤقتة للمجلس الوطني للصحافة، يونس مجاهد، تحت عنوان *”مأزق التنظيم الذاتي وسقط المتاع“، يسلط الضوء على تحديات عميقة تواجه التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة في المغرب. يحاول هذا المقال مناقشة وقراءة تحليلية لأفكار مجاهد، التي تكشف عن أزمة حقيقية تهدد شرعية الصحافة ومصداقيتها، حيث يطرح السؤال الملح: هل وصل التنظيم الذاتي إلى مأزق يجعل من الصحافة “سقط متاع”، أي مجرد نشر للتفاهات وفقدان للضمير المهني؟

يؤكد مجاهد أن فلسفة التنظيم الذاتي تقوم على انخراط طوعي من الصحافيين والناشرين في مشروع تخليق المهنة، بهدف حمايتها من الممارسات غير المهنية وضمان مصداقيتها أمام الجمهور. يستشهد بقول الشاعر قطري بن الفجاءة: *”وما للمرء خيرٌ في حياةٍ – إذا ما عُدَّ من سقط المتاع“، ليبرز أن الصحافة، بدون التزامها بأخلاقيات المهنة، تفقد قيمتها وتصبح مجرد متلاشيات لا فائدة منها.

هذا المبدأ يتطلب إرادة داخلية من المهنيين لتنظيف صفوفهم، بعيدًا عن أي تدخل خارجي، لكن التجربة المغربية تكشف عن تحديات تعيق تحقيق هذا الهدف.

بدأت النقابة الوطنية للصحافة المغربية في التسعينيات مبادرات لتخليق المهنة، من خلال تأسيس لجنة حكماء آداب المهنة، ثم الهيئة المستقلة لاحترام أخلاقيات الصحافة وحرية التعبير في بداية القرن الحالي، وصولاً إلى إنشاء المجلس الوطني للصحافة.

لكن، كما يشير مجاهد، تواجه هذه الجهود مأزقًا بسبب ضعف الالتزام الجماعي بأخلاقيات المهنة.

يستعرض المقال تجارب دولية تسلط الضوء على تحديات مماثلة.

أولا: في فرنسا، اقترحت اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان عام 1995 ربط الحصول على بطاقة الصحافة بالالتزام بأخلاقيات المهنة، بحيث يؤدي انتهاكها إلى سحبها أو عدم تجديدها، وهو نموذج يعكس أهمية فرض عقوبات صارمة، وهو ما يغيب عن التجربة المغربية.

نذكر أنه في فرنسا، يوجد نظام لبطاقة الصحافة المهنية، تصدرها لجنة :

Commission de la Carte d’Identité des Journalistes Professionnels (CCIJP).

هذه اللجنة تضع معايير لمنح البطاقة، ترتبط عادةً بالعمل المهني كصحافي بدوام كامل أو جزئي. والنقاشات حول أخلاقيات الصحافة كانت قائمة في التسعينيات، خاصة مع ظهور قضايا مثل التغطية الإعلامية للخصوصية.

ثانيا أما في بريطانيا، انهار مجلس شكاوى الصحافة بعد فضائح أخلاقية، مما دفع الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق برئاسة القاضي بريان ليفيسون. استمعت اللجنة إلى شخصيات مثل رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، وأصدرت تقريرًا شدد على ضرورة مسؤولية الصحافة أمام الجمهور، واقترحت فرض غرامات تصل إلى مليون جنيه إسترليني على الصحف المخالفة، مع إنشاء نظام تحكيم ميسر. هذا النظام، المعروف بـ”نظام الاعتراف”، هدف إلى استعادة مصداقية التنظيم الذاتي.

في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، شهدت بريطانيا فضيحة اختراق الهواتف من قبل صحف مثل News of the World، مما أدى إلى إغلاق الصحيفة عام 2011.

استجابةً لذلك، شكلت الحكومة البريطانية لجنة ليفيسون (Leveson Inquiry) برئاسة القاضي بريان ليفيسون للتحقيق في “ثقافة وممارسات وأخلاقيات الصحافة”. استمعت اللجنة إلى شخصيات بارزة، بما في ذلك رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون وآخرين. أصدرت اللجنة تقريرًا عام 2012، دعا إلى إنشاء هيئة تنظيم ذاتي مستقلة، مدعومة بنظام قانوني، مع فرض غرامات على الانتهاكات الأخلاقية.

كما أدت التوصيات إلى إنشاء Independent Press Standards Organisation (IPSO) ونظام الاعتراف، على الرغم من أن بعض الصحف رفضت الانضمام إليه.

ثالثا وفي الكيبيك، واجه مجلس الصحافة أزمة مماثلة، حيث انتقد ريمون كوريفو، رئيس المجلس السابق، في كتابه “بؤس التنظيم الذاتي” تعقيد إجراءات الشكاوى وضعف تشكيلة الأعضاء، داعيًا إلى مراجعة شاملة. لكنه واجه مقاومة من وسائل الإعلام، مما أدى إلى استقالته.

للاشار فمجلس الصحافة في الكيبيك (Conseil de presse du Québec) هو هيئة تنظيم ذاتي تأسست عام 1973، وتعمل على معالجة الشكاوى المتعلقة بأخلاقيات الصحافة. ريمون كوريفو (Raymond Corriveau) كان بالفعل رئيسًا لهذا المجلس في فترة سابقة.

كما أن هناك نقاشات موثقة في الكيبيك حول تحديات التنظيم الذاتي، بما في ذلك تعقيد إجراءات الشكاوى وضعف التأثير على وسائل الإعلام التي ترفض الانضمام إلى المجلس.

الى ذلك، يكشف مقال مجاهد عن أزمة التنظيم الذاتي في المغرب، الناتجة عن ضعف الالتزام الجماعي بأخلاقيات المهنة. يستشهد بجمال الدين الناجي، الذي يحذر في كتابه “موجز آداب المهنة” من أن الميثاق الأخلاقي ينهار إذا لم يحترمه المهنيون. على عكس مهن مثل الطب، حيث يمكن شطب المخالفين، لا توجد في الصحافة المغربية آليات تأديبية فعالة. هذا الوضع يفاقمه استغلال بعض الصحف لشعار “حرية التعبير” لإخفاء مصالح تجارية، مما يعرض الجمهور لانتهاكات دون محاسبة.

يشدد المقال على أن شرعية الصحافة وهيئاتها المهنية تعتمد على انخراطها التلقائي في تخليق المهنة. التجارب الدولية تظهر أن التنظيم الذاتي الناجح يتطلب التزامًا جماعيًا، آليات تحكيم ميسرة، وعقوبات صارمة.

في المغرب، يتطلب تجاوز مأزق إعادة هيكلة المجلس الوطني للصحافة، وتفعيل إجراءات تأديبية تحمي المهنة من التدهور وتضمن مسؤوليتها أمام الجمهور.

يضع مقال يونس مجاهد التنظيم الذاتي للصحافة المغربية أمام خيارين:

إما أن يصبح أداة فعالة لتخليق المهنة، أو يظل عالقًا في مأزق يهدد شرعية الصحافة.

استعادة ثقة الجمهور تتطلب التزامًا جماعيًا بأخلاقيات المهنة، مدعومًا بآليات محاسبة صارمة، لضمان ألا تتحول الصحافة إلى “سقط متاع”، بل تبقى صوتًا مسؤولًا يخدم المجتمع ويعزز قيمه الأخلاقية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!