بصوت مرتفع … هل تحتاج السياسة الى الكفاءة؟

محمد مباركي

على ضوء الخطاب الملكي بتاريخ 29 يولبوز 2019 كثرت الأحاديث والتعاليق عن الحاجة الى الكفاءة بشكل عجيب كأننا أمام مغرب غير كفؤ (Un Maroc incompétent )، مما جعلنا نطرح السؤال التالي : هل تحتاج السياسة الى الكفاءة في السياق المغربي ؟

يبدو السؤال غريبا أو بالأصح استنكاريا لأن الكفاءة بما هي القدرة على الربط الخلاق بين الفرص المتاحة، العوائق والأهداف المتوقعة من خلال حسن التدبير والتنسيق والتتبع وقياس النتائج وتحمل مسؤولية “الفشل”، مسألة ضرورية في جميع مناحي الحياة العامة.. لكن لما نتأمل الخطاب الرسمي للدولة وسياساتها العمومية في العلاقة بالمجتمع يتأكد لنا بدون عناء أن للممارسة السياسية معنيين مزدوجين في منطق الدولة والتي تسعى كي يصبح منطقا للمجتمع أيضا : السلطة العليا تشتغل بشكل جاد ومستمر بينما النخب متكاسلة وعاجزة…و يترتب عن هذا المنطق بالضرورة خطاب تحقيري للنخب السياسية برمتها يبني مشروعيته على معايير افتقاد تلك النخب للشجاعة و الكفاءة المعرفية و التدبيرية، وفي هذه اللحظة بالذات يطفو الى سطح الحياة السياسية محللون كثيرون ومراكز الدراسات وتحليل المؤشرات لتشخيص أمراض التخلف و أعطاب التنمية بدعوى عدم قدرة النخب الحزبية على مواكبة الأوراش والبرامج التي تباشرها المؤسسة الملكية، و في أحيان كثيرة يكون هذا التشخيص حق أريد به باطل من حيث أن هؤلاء المحللين والمراكز يقدمون أنفسهم بدائل قادرة على تقديم الخدمة المفتقدة أي الكفاءة دون الحاجة الى الانخراط في البنية الحزبية المهترئة والمتكلسة حسب زعمهم… من هنا نفهم عدائهم للعمل الحزبي الجاد وجاهزيتهم لارتداء قبعات حزبية ولدت في مختبر السلطة كلما نودي عليهم لتقلد مسؤولية رسمية ما قد تتيح لهم الصعود الاجتماعي…هنا لابد من طرح السؤال بطريقة أخرى : من الذي يمنع ” الكفاءات” المنتجة لراسمال ” الكفاءة والنجاعة” من الانخراط في العمل الحزبي الجاد؟…أقول الجاد لأن خطاب التعميم خطاب تغليطي وتمويهي يتبنى شعار ” ليس في القنافذ أملس”؟؟.

إن التاريخ الفعلي للسياسة في المغرب هو تاريخ الصراع من أجل الديمقراطية والقطع مع المنظومة المخزنية اقتصاديا سياسيا وسوسيوثقافيا، وبالتالي يخبرنا هذا التاريخ على الأقل بثلاث حقائق ساطعة سطوع الشمس لحظة الشروق :

الحقيقة الاولى هي أن قوى اليسار في المغرب ظلت مختبرا حقيقيا لإنتاج النخب المفكرة الممانعة، أفرادا، وتنظيمات وأقلام ( لايتسع المجال لاحصاء المنابر الثقافية والفكريةوالاعلامية اللامعة والتي قاومها النظام بمختلف اساليب التضييق والمنع والحصار الإقتصادي والسياسي والانتخابي والاعلامي ( اسألوا أصحاب المطابع التي كانت تطبع منشورات اليسار ” وحجم معاناتهم ترهيبا وترغيبا..)..

الحقيقة الثانية هي أن المخزن كان يستعين في اللحظات الصعبة و”الحرجة” بالبعض من تلك النخب المصقولة والمتمرسة في مصنع اليسار الممانع منذ الاستقلال الى الآن وكان يضطر في أحيان كثيرة الى تحزيب بعض ” الكفاءات ” المتخرجة من مدرسة القناطر والبوليتكنيك عبر أحزاب ” مختبر السلطة ” لزرعها في الحكومات المتعاقبة باعتبارها حراسا لمصالحه وفرامل حقيقية لأية جرأة قد تكشف النقاب عن شبكة تلك المصالح المركبة والممتدة في الداخل والخارج..

الحقيقة الثالثة هي أن الربط بين الافتقاد الى الكفاءة والنجاعة التدبيريتين وضرورة مباشرة تعديلات إدارية وحكومية فيه رسالة مباشرة الى حكومة يقودها حزب ينتمي الى “حركة الاسلام السياسي” استعان به النظام السياسي لدرء مخاطر الربيع الديمقراطي العربي مع العلم أن حركة الاسلام السياسي في العالم العربي لم تنتج طيلة تاريخها مثقفين ونخب علمية بصمت بعطاءاتها وانتاجاتها تاريخ العلم والمعرفة اللهم بعض الفقهاء والدعاة الذين ملأوا الدنيا صراخا وانغلاقا ذهب ضحيتهم الكثير من المفكرين والباحثين والفقهاء المتنورين………إن الاقتراب من العلم والمعرفة النقدية هو بمعنى من المعاني ابتعاد وطلاق للخطاب الديني المتمذهب….

نعم بكل تأكيد، بقدر ما تحتاج الممارسة السياسية الى الكفاءة والنزاهة والأخلاق ونكران الذات، تحتاج في ذات الوقت الى إعمال معايير التتبع والتقييم والمحاسبة لكل مكونات الحقل السياسي مهما علت مرتبتها وشأنها…كل من يحكم أو يعارض من يحكم يخضع لنفس قواعد التنافس الديمقراطي الواردة في بنية دستورية وسياسية قائمة على التعاقد، و هذا المنطق التاريخي والطبيعي لحقل سياسي ديمقراطي هو المؤهل لإنتاج وإعادة إنتاج الخبرات والكفاءات خارج مسلسل صناعة النخب عبر آليات الريع وشبكات الزبونية والمحسوبية والقرب من السلطة التي بمجرد أن تثير غضبها تدفع بك الى دائرة التهميش والنسيان مهما كانت قدراتك المعرفية والتدبيرية….كثير من الكفاءات والرجالات قتلتها السلطوية….

تجربة حكومة عبد الله إبراهيم حالة عينية وتاريخية للتمعن والدراسة للأجابة على سؤال تاريخي : لماذا أجهضت هذه التجربة باعتبارها خطوة حاسمة في دمقرطة وتحديث الدولة المغربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا؟ ثم بعد هذا الحلم المجهض على يد مناهضي ” قيادة وطنية تحررية جمعت بين الكفاءة السياسية والخبرة التقنية والتدبيرية وجرأة التشخيص والموقف”، كيف نفسر النقد الذاتي لحكومة التناوب ” التوافقي ” الذي قدمه قائد سفينة التناوب آنذاك الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في محاضرة بروكسيل سنة 2003 لما خلص الى أن ” القوة الثالثة في السلطة حالت دون الانتقال من التناوب التوافقي الى التناوب الديمقراطي؟؟؟؟؟.”….

بالقدر الذي نحتاج فيه الى نخب كفؤة ومنتجة للثروة المادية والرمزية، بالقدر الذي يصبح فيه من الصعوبة بمكان إعمال معايير من قبيل الكفاءة والنجاعة في ظل حقل سياسي مغلق وعاجز عن القطع مع المأزق التاريخي لديمقراطية مراقبة هي في نهاية المطاف في خدمة مركزية السلطة…

محمد امباركي
وجدة الفاتح من غشت 2019

المصدر: https://www.facebook.com/med.mbarki.1/posts/2389724097775033

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى