تحدي الماء في الشرق: خارطة الطريق من العطش إلى الاكتفاء (بركان وتاوريرت نموذجاً)

I . المشهد الافتتاحي : الشرق يلهث خلف قطرة (صرخة الأرض الجافة)
حرارة بركان، وميض الأمل في تاوريرت
في قلب الجهة الشرقية للمملكة، حيث تتشابك مزارع الحمضيات الشهيرة في بركان مع سهول تاوريرت القاحلة، تبدو الأرض وكأنها تلهث. أجيال من الفلاحين اعتمدت على سخاء السماء وعروق الأرض، لكن الأنماط المناخية المتغيرة حولت الجفاف إلى واقع يومي يهدد لقمة العيش والاستقرار.
يقف المزارعون اليوم أمام تحدي تراجع منسوب المياه الجوفية والاعتماد المتزايد على قنوات السقي التقليدية، والتي أثبتت هشاشتها وعدم كفاءتها في زمن الندرة. كان لزاماً البحث عن كلمة سحرية: “المياه غير التقليدية”.
شهدت المنطقة تحولاً جذرياً في نهجها الإمدادي، مما يبرهن على أن الأزمة تجاوزت كونها مجرد نقص في كمية الأمطار إلى أزمة بنيوية وحوكمة. ففي السابق، كانت مشاريع الإمداد بالماء الشروب تعتمد على نفس القنوات المخصصة للري، مثل قنوات تريفة وبوعارك. هذا التداخل أدى إلى فواقد كبيرة، وتلوث محتمل، ونزاعات على الاستخدام، مما أضعف قدرة البنية التحتية على ضمان الأمن المائي الأساسي للسكان.
ولضمان جودة وتوفر الماء الشروب في سياق الأزمة، اتخذت الحكومة قراراً استراتيجياً باستثمار حوالي 690 مليون درهم لإنشاء قنوات تحت أرضية خاصة لنقل صبيب المياه الخام من سد مشرع حمادي نحو محطات المعالجة في الناظور وبركان وزايو. هذا المشروع ليس مجرد تحديث للبنية التحتية، بل هو اعتراف بأن الإجهاد المائي يفاقمه ضعف كفاءة شبكات التوزيع القديمة، ويتطلب بنية تحتية مكرسة ومحصنة.
هذا التحول، الذي يمثّل نقطة ربط قصصية بين الواقع المأزوم والأمل التكنولوجي، يمثل بداية التحول الجذري الذي تنتظره الجهة الشرقية. لقد بدأت الآمال تُعقد على مشاريع ضخمة، خاصة في تاوريرت وبركان، التي أصبحت ضمن خارطة الأولويات الوطنية لتنزيل برامج تحلية المياه وإعادة استعمال المياه العادمة.
II. خريطة العطش: الأرقام التي تضع المغرب في المنطقة الحمراء
إن فهم الجهود الميدانية في بركان وتاوريرت يستلزم وضعها ضمن السياق الأوسع للإجهاد المائي الذي يواجه المملكة بأسرها. لقد انتقل المغرب خلال العقود القليلة الماضية من بلد يوصف بـ”الغني” بالموارد المائية إلى بلد يواجه أزمة حادة تهدد أمنه الوطني.
سياق الإجهاد المائي الوطني: من الوفرة إلى الندرة
تدهور الوضع المائي الوطني بشكل خطير، حيث انخفض نصيب الفرد من الموارد المائية إلى ما يقارب 600 متر مكعب سنوياً، وهو تراجع مريع مقارنة بـ 2560 متر مكعب سجلت في عام 1960. هذا الانخفاض يعني أن البلاد فقدت أكثر من 75% من احتياطاتها المائية خلال خمسين عاماً، متجاوزة خط الفقر المائي بكثير. نتيجة لذلك، وضع تقرير للمعهد العالمي للموارد المائية (WRI) المغرب في المرتبة 22 عالمياً ضمن البلدان الأكثر تعرضاً للإجهاد المائي، وهي وضعية حرجة تبرر حجم الاستجابة الوطنية السريعة التي تم اتخاذها.
هذا التدهور يتجلى بوضوح في مؤشرات مخزون السدود، حيث بلغت نسبة الملء نحو 18.9% فقط في مارس 2025، على الرغم من أن بعض التساقطات الأخيرة قد ساهمت في زيادة المخزون جزئياً. إن الاعتماد المستمر على مياه الأمطار السطحية والجوفية، التي تعاني من الاستغلال المفرط، لم يعد خياراً، بل أصبح تحدياً يتطلب تغيير نموذج التزويد بالكامل.
تشريح الأزمة في الجهة الشرقية (حوض ملوية)
بالنسبة للجهة الشرقية، وعلى الرغم من أنها لا تتصدر قائمة الجهات الأكثر إجهاداً مائياً، حيث سجلت مؤشراً قدره 0.48 ، إلا أنها صُنفت ضمن “المنطقة الحمراء ذات معدل المخاطرة المرتفع”. هذا التصنيف لا يرتكز فقط على أرقام الإجهاد المائي الحالية، بل على قدرة الحوض المائي (ملوية) على الصمود أمام الصدمات المناخية المستقبلية ونقص الموارد التقليدية. هذا المنظور الاستراتيجي هو ما يفسر حجم الاستثمار الهائل المخصص للمنطقة، وتحديداً مشروع تحلية مياه البحر الذي تبلغ كلفته 11 مليار درهم.
بالإضافة إلى ندرة المياه، يواجه الشرق تحدياً مزدوجاً يتمثل في التهديد بالفيضانات، حيث تحتل الجهة الشرقية المرتبة الثانية وطنياً في هذا الترتيب (بعد العيون).5 هذه الازدواجية تتطلب حوكمة معقدة ومشاريع حماية إلى جانب مشاريع التزويد. الخلاصة التحليلية هنا هي أن الاستجابة الاستراتيجية لم تعد ترتكز على مجرد معالجة النقص الحالي، بل على بناء مرونة متكاملة للمنطقة في مواجهة تقلبات المناخ.
إليك جدول يلخص مؤشرات الأزمة التي دفعت إلى التدخل الاستراتيجي في الشرق:
مؤشرات الأزمة المائية (الوطنية والشرقية)
المؤشر | القيمة | المغزى الاستقصائي |
الترتيب العالمي في الإجهاد المائي | 22 عالمياً | وضعية حرجة تبرر الاستجابة الوطنية السريعة. 5 |
حصة الفرد من المياه (حالياً) | 600 متر مكعب سنوياً | تراجع بأكثر من 75% منذ 1960، يشير إلى تجاوز خط الفقر المائي. 4 |
تصنيف الجهة الشرقية (WRI) | 0.48 (ضمن المنطقة الحمراء) | الحاجة الماسة لحلول مستدامة غير مرتبطة بالتساقطات المطرية. 5 |
الميزانية المحدثة للبرنامج الوطني للماء | 143 مليار درهم (2020-2027) | مؤشر على الالتزام الحكومي لمواجهة التحدي باعتباره “قضية أمن وطني”.4 |
III. خطة الإنقاذ الكبرى: استراتيجية الـ 143 مليار درهم
للتصدي لهذه الوضعية الحرجة، تم وضع خارطة طريق وطنية استجابة للتوجيهات الملكية السامية لمواجهة تأثير التغيرات المناخية. وتُرجمت هذه التوجيهات إلى البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027.
البرنامج الوطني 2020-2027: تحويل التحدي إلى فرصة
يعتبر هذا البرنامج خطوة استراتيجية نحو تعزيز الأمن المائي في المغرب. وكدليل على أن الدولة حولت الأزمة المائية من تحدٍ بيئي إلى أولوية استراتيجية عاجلة توازي مشاريع البنية التحتية الكبرى، فقد تم رفع الميزانية المخصصة لهذا البرنامج من 115 مليار درهم إلى 143 مليار درهم. هذه الزيادة البالغة 28 مليار درهم في فترة زمنية قصيرة تعني أن حجم التحدي أكبر من المتوقع أو أن المشاريع الهيكلية، مثل مشروع التحلية الكبرى في الشرق، أصبحت أكثر إلحاحاً وتتطلب تمويلاً فورياً. وتأكيداً على هذا الالتزام، خصصت ميزانية 2025 استثماراً عمومياً في قطاع التجهيز والماء يصل إلى 43.1 مليار درهم.
ترتكز الاستراتيجية على أربعة محاور رئيسية، يمثل المحور الأخير منها الحل الأكثر أهمية للجهة الشرقية:
- تطوير العرض المائي: عبر بناء السدود الكبرى والصغرى، والربط بين الأنظمة المائية، واللجوء بقوة إلى تقنية تحلية مياه البحر.
- تدبير الطلب وتثمين الموارد المائية: من خلال تحسين مردودية شبكات توزيع الماء، والتحويل إلى الري الموضعي لتقليل الهدر.
- تعزيز التزويد بالماء الصالح للشرب في المناطق القروية.
- إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة: من خلال استخدام المياه المعالجة لسقي المساحات الخضراء وملاعب الغولف، وصولاً إلى المجال الفلاحي والصناعي.
التحول الجذري نحو المياه غير التقليدية (Unconventional Water)
لقد أصبحت التحلية وإعادة الاستعمال هي الخط الدفاعي الأخير لضمان الأمن المائي. المغرب يطمح لإعادة استعمال 300 مليون متر مكعب من المياه المعالجة بحلول عام 2050، وهو ما سيساهم في توفير ملايين الأمتار المكعبة من الماء الشروب لأغراض أكثر حيوية.3
ويتطلب هذا الهدف الضخم التزاماً قانونياً صارماً، خاصة وأن إعادة استخدام المياه العادمة تتطلب معايير جودة صارمة لمنع التلوث. يوفر الإطار القانوني، ممثلاً بالمرسوم رقم 787-97-2 الصادر في عام 1998، الأساس لتبرير الإنفاق الضخم على التطهير والمعالجة، حيث يحدد معايير جودة المياه ويوجب جرد درجات التلوث. هذا الالتزام بالمعايير البيئية هو ما يربط الاستثمارات في توسيع وتحسين محطات التصفية في مدن الشرق (تاوريرت وبركان) بالهدف الأكبر المتمثل في تحرير الموارد المائية التقليدية.
IV. حلول من تحت البحر: مشروع تحلية وجدة (تأمين المستقبل)
لا يمكن للجهة الشرقية أن تعتمد بعد اليوم على التساقطات المطرية المتقلبة في حوض ملوية. لذلك، تم إطلاق مشروع هيكلي ضخم لضمان استقرار الإمداد بالماء الشروب، يمثل أحد أكبر الاستثمارات في المنطقة.
المشروع الهيكل بالجهة الشرقية
يتمثل الحل في إطلاق دراسة مشروع تحلية مياه البحر بهدف تأمين تزويد مدن وجدة وأقاليم تاوريرت وبركان والناظور والدريوش بالماء الصالح للشرب. يعد هذا المشروع، الذي تبلغ كلفته الإجمالية أكثر من 11 مليار درهم، ثاني أكبر محطة تحلية من حيث الحجم على الصعيد الوطني. ويتم إنجازه من طرف المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب (ONEE)، بسعة إجمالية تناهز 250 مليون متر مكعب عبر ثلاث مراحل، ومن المتوقع بدء استغلاله سنة 2027.
إن التكلفة الهائلة التي تفوق 11 مليار درهم ليست مجرد رقم، بل هي مؤشر على أن نجاح هذا المشروع حتمي لضمان استقرار التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمدن الكبرى في الشرق. فشل أو تأخير تشغيل هذا المرفق بحلول عام 2027 سيعرض الأمن المائي لأكثر من مليون نسمة في المنطقة لخطر شديد، مما يؤكد أن هذا الاستثمار هو ضرورة استراتيجية للوجود الاقتصادي للمنطقة.
الآثار الاستراتيجية على حوض ملوية
يوفر مشروع التحلية مرونة استراتيجية لمواجهة تأثير التغيرات المناخية في حوض ملوية، بعيداً عن تقلبات الأمطار. لكن الأهم من ذلك، أن تأمين الماء الشروب عبر التحلية يتيح “تحرير” الموارد المائية التقليدية المحدودة (مياه السدود والمياه الجوفية) لاستخدامها في أغراض أخرى، خاصة الزراعة والصناعة.
وهنا يظهر الترابط والتآزر بين المشاريع الهيكلية. فالاستثمار في قنوات النقل تحت الأرضية في بركان بقيمة 690 مليون درهم ليس مخصصاً فقط لنقل المياه الخام من سد مشرع حمادي الحالي، بل هو جزء من شبكة متكاملة يتم تصميمها لاستقبال وتوزيع مياه التحلية القادمة من الساحل بكفاءة عالية. هذا يضمن أن البنية التحتية الداخلية في مدن مثل بركان وتاوريرت مجهزة بالكامل لاستقبال مصادر مائية جديدة ومستدامة، مما يحقق التكامل في الخطة الاستراتيجية.
V. الحياة الثانية للمياه: إعادة التدوير في بركان وتاوريرت (دراسة حالة متعمقة)
بجانب تحلية مياه البحر، يمثل إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة الركيزة الثانية لاستراتيجية الأمن المائي في الجهة الشرقية. وتعتبر المياه المعالجة مورداً ذا قيمة عالية، ينص قانون الماء على أنها جزء من الملك العمومي المائي ينبغي تثمينه واستغلاله.
المسار التقني: من محطة التطهير إلى الحقل
يشهد حوض ملوية اليوم جهوداً مكثفة في مشاريع توسيع وتحسين أداء محطات تصفية المياه العادمة (STEP). على سبيل المثال، يعمل المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب (ONEE) على توسيع محطة معالجة المياه ببركان. كما تجري مشاريع مماثلة لتحسين وتوسيع شبكات التطهير السائل ومحطات التصفية في تاوريرت، زايو، بوعرفة، وتيزطوطين. تهدف هذه المشاريع، التي تندرج ضمن البرنامج الوطني للتطهير السائل 10، إلى تحسين الظروف المعيشية والصحية والبيئية للسكان، وتهيئة المياه المعالجة لاستخدامات أخرى.
يعتمد نجاح هذه المشاريع على ضمان جودة المعالجة، حيث يتم العمل على التوافق التام مع المرسوم 787-97-2 الذي يحدد معايير الجودة. وهذا يضمن إمكانية استخدام المياه في السقي دون أضرار بيئية أو صحية.
توثيق الجهود الميدانية: دور الماء المعالج في الفلاحة والصناعة
لقد تجاوزت مشاريع إعادة التدوير في الشرق مرحلة التخطيط النظري. ففي وجدة، يظهر التركيز الجديد على دمج المياه المعالجة في المجال الفلاحي، عبر مشروع إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة لسقي المساحات الخضراء والمدار السقوي لبونعيم، الذي يغطي 1500 هكتار، بكلفة 263 مليون درهم. هذا الاستهداف المباشر للري الفلاحي يمثل تحولاً عن التركيز التقليدي على ملاعب الغولف والمساحات الخضراء الحضرية فقط.
كما أن هناك شراكات استراتيجية تجري حالياً على الأرض، مثل الشراكة بين ONEE والمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي (ORMVA) في بركان، لتسهيل نقل المياه الخام. بينما يركز هذا المشروع تحديداً على تأمين ماء الشرب عبر القنوات تحت الأرضية، فإنه يسمح في الوقت ذاته بتركيز الموارد المائية المعالجة والموثوقة على القطاع الفلاحي والصناعي، مما يساهم في “تطعيم المياه الجوفية” وتحقيق إدارة أفضل للمياه ببلادنا.
يوضح الجدول التالي حجم هذه المشاريع النوعية في الجهة الشرقية:
مشاريع المياه غير التقليدية في الجهة الشرقية (دراسة الحالة)
المشروع | الموقع/المناطق المستفيدة | الهدف الأساسي | السعة/التكلفة التقديرية | حالة المشروع |
تحلية مياه البحر الكبرى | وجدة، تاوريرت، بركان، الناظور | تأمين الماء الشروب | 250 مليون م³ / 11 مليار درهم | إطلاق دراسة (تشغيل 2027) |
إعادة استعمال المياه العادمة (الزراعي) | وجدة (المدار السقوي بونعيم) | سقي 1500 هكتار | 263 مليون درهم | اتفاقية التمويل قيد التوقيع |
توسيع شبكة/محطة التطهير | بركان | تهيئة نقل المياه الخام (شروب) | 690 مليون درهم لقنوات النقل | قيد الإنجاز |
توسيع وتحسين محطات التطهير | تاوريرت، زايو، بوعرفة | تحسين الأداء البيئي والصحي | قيد الإنجاز | قيد الإنجاز |
VI. صراع التنزيل: تحديات القبول والجودة والإدارة
على الرغم من ضخامة الاستثمارات والتقدم التقني، يواجه تنزيل هذه المشاريع في الشرق، كما في باقي أنحاء المملكة، تحديات ليست فنية بالضرورة، بل اجتماعية وإدارية عميقة.
العقبة الاجتماعية: تحدي القبول الشعبي
إن المقاومة الشعبية لا تتعلق فقط بالشكوى من ارتفاع الأسعار أو سوء جودة الخدمة ، بل تعكس مقاومة أعمق لـ “تسييل” (Commodification) مورد حيوي مثل الماء. إن تكلفة التشغيل والصيانة للتكنولوجيا الحديثة، سواء كانت تحلية المياه أو معالجتها ثلاثياً، ستؤدي حتماً إلى زيادة في أسعار الماء الشروب. إذا لم يتم معالجة قضايا الشفافية والقبول الاجتماعي أولاً، فإن النجاح التقني للمشاريع قد يواجه انتكاسة بسبب الرفض الشعبي وعدم القدرة على تحمل التكاليف، خاصة في منطقة حساسة كالشرق.
وفي حالة المياه المعالجة، يبرز تحدي بناء الثقة حول جودة المياه التي كانت “عادمة”، خاصة عند استخدامها لسقي منتجات استهلاكية. لذلك، يعتبر التواصل والتوعية (وهو أحد محاور البرنامج الوطني ) ضرورياً لإنجاح مشاريع إعادة الاستعمال، ويجب أن يرتكز على ضمانات صارمة بجودة المعالجة المعتمدة على المرسوم القانوني.
التحدي البيئي والفني (ضمان الجودة والاستدامة)
لضمان سلامة استخدام المياه المعالجة في المجال الفلاحي بوجدة أو في أي موقع آخر، يجب الالتزام الصارم بتطبيق المرسوم 787-97-2 الذي يحدد معايير جودة المياه وجرد درجات التلوث. هذا يتطلب رقابة مخبرية مستمرة وموارد مخصصة لوكالات الأحواض المائية لتقييم جودة مياه الصب.
بالإضافة إلى ذلك، تستهلك مشاريع التحلية الكبرى (11 مليار درهم) طاقة هائلة. لتخفيف التكاليف وضمان الاستدامة، يجب دمج الطاقة الشمسية والموارد المتجددة في عمليات التشغيل، خاصة وأن المناطق الشرقية والشمالية الشرقية تتمتع بإشعاع شمسي وفير.
الحوكمة والإدارة المتكاملة
تتطلب ضخامة الاستثمارات (143 مليار درهم) كفاءة قصوى في الإنفاق وتجنباً للهدر المائي في شبكات التوزيع القديمة، وهو ما يقع ضمن نطاق تدبير الطلب.
لكن التحدي الأهم يكمن في الحوكمة. إن نجاح إعادة استخدام المياه العادمة في بركان وتاوريرت يعتمد على تحقيق التنسيق التشريعي والتنفيذي بين ثلاث جهات رئيسية: المشغل والمنتج للمياه المعالجة (ONEE)، الجهة المستفيدة (المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي – ORMVA)، والجهة الرقابية والبيئية (وكالة حوض ملوية). أي خلل في هذا المثلث (سواء في جودة المعالجة أو في قبول ORMVA للمياه أو في تحديد التعرفة) سيعطل المشروع بأكمله. لهذا السبب، تعتبر الشراكة المذكورة بين ONEE و ORMVA في بركان خطوة تنفيذية حاسمة تهدف لتجاوز التحدي الإداري وتحويل التخطيط إلى عمل ميداني متكامل.
VII. مشهد الختام: مستقبل مائي بين الكفاءة والاستدامة
لقد حوّل الجفاف في الشرق المغربي تحدي الماء من أزمة قطاعية إلى قضية أمن وطني واستراتيجي. اليوم، تُعد الجهة الشرقية، وخصوصاً محاور بركان وتاوريرت ووجدة، مختبراً حقيقياً لتطبيق الحلول الوطنية غير التقليدية.
تجري في هذه المنطقة عملية هندسة لمستقبل الماء، حيث يتم تطبيق مشروع تحلية المياه الكبرى الذي يكلف 11 مليار درهم، جنباً إلى جنب مع مشاريع إعادة استعمال المياه العادمة في المجال الفلاحي. هذه الجهود الميدانية، المدعومة بميزانية وطنية محدثة تبلغ 143 مليار درهم، تعكس إدراكاً عميقاً بأن الاعتماد على القدر ليس كافياً، بل يجب هندسة الموارد والتحكم بها.
إن التحدي الأكبر الذي تواجهه المملكة في تنزيل هذه البرامج الطموحة في الشرق لم يعد تقنياً (فالتكنولوجيا متاحة)، بل يكمن في تحقيق الكفاءة والحوكمة. يجب ضمان التنسيق الكامل بين كل الفاعلين لضمان أن المياه المعالجة، التي تعد جزءاً من الملك العمومي المائي ، يمكن أن تساهم فعلياً في تعزيز الأمن المائي. وفي الختام، فإن استدامة هذا البرنامج تتطلب التضحيات المجتمعية والاقتصادية، والعمل المتواصل على بناء الثقة الشعبية، لضمان أن تستفيد الأجيال القادمة من هذا المورد الحيوي المهندس حديثاً.
عبدالعالي الجابري – وجدة، 31 مارس 2025.