المغرب و الجزائر؛ او عندما تتحكم ردود الأفعال في العلاقات الخارجية للدول .

أن المهتمين بالشأن الدولي ما كانوا يتصورون يوما ان العربية السعودية ستحول الصراع الدولي الذي تقوده روسيا والصين ودول اخرى اقليمية صاعدة ضد الأحادية القطبية بقيادة امريكا الى فرصة لإعادة تموضعها في الساحة الدولية وتعمل كنتيجة لذلك على أخذ مسافة عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب. اولها رفضها التخلي عن التزامتها مع روسيا في اوبك بلوس و آخرها رفض تجديد اتفاقية البترودولار التي سبق ان وقعتها مع أمريكا سنة 1974 . في مقابل عقد شراكات اقتصادية وتجارية قوية مع الد خصوم حلفائها التقليديين و الانضمام الى مجموعة البريكس و قريبا الى منظمة شنغهاي للتعاون. كتكتلين دوليين واقليمين منافسان للتكتلات التقليدية التي صاحبت مرحلة الحرب الباردة . وهي الدولة التي كانت الى عهد قريب تابعة كليا لامريكا الى درجة ان الرئيس الامريكي السابق ترامب بادر الى ابتزازها واذلال حكامها أمام كاميرات القنوات الاعلامية العالمية وذلك حين صرح بما مضمونه، أنه قال للملك السعودي عليكم ان تدفعوا مقابل الحماية التي نوفرها لكم و لطائراتكم التي لن تحلق دون ارادتنا. وفي سياق نفس التوجه ما من احد كان يتصور ان المملكة السعودية الراعية للإسلام “السني” ستقدم على مصالحة تاريخية مع إيران “الشيعية” بعد كل المجهودات الامريكية الاسرائيلية التي بذلتها لزرع بذور الفتنة الطائفية في المنطقة ضمن ما سمي بمشروع خارطة الشرق الاوسط الجديد والذي كان للسعودية دور أساسي فيه ،مع توجيه بوصلة العداء شعبيا ورسميا في اتجاه ايران بدل اسرائيل .بل و قدرتها على توظيف الشراكات الاقتصادية والتجارية التي تربطها مع كل من الصين وروسيا المرتبطتين كذلك بشراكات استراتيجية مع إيران لتصحيح علاقتها مع هذه الاخيرة بوساطة صينية ،افضت الى انهاء صراع مذهبي وطائفي في غاية الصعوبة .وفتحت الباب لعلاقات استراتيجية قائمة على مبدأ الاحترام المتبادل للسيادة و خدمة المصالح المشتركة التي تتطلب استقرارا سياسيا في العلاقة الخارجية للدول المعنية بهذه الشراكات.
اطرح هذا التقديم للتعرج على المغرب والجزائر وما أضاعوه من فرص لتوطيد علاقاتهم الثنائية،التي شابتها نزاعات يعود بعضها الى مرحلة الحرب الباردة ، التي وضعت البلدين على طرفي نقيض بين معسكر غربي رأسمالي انحاز اليه المغرب . وبين معسكر شرقي اشتراكي انحازت إليه الجزائر . خاصة خلال وبعد العقد الثاني من الألفية الثالثة التي تميزت ببداية تصدع النظام الدولي ، بعد بروز أقطاب عالمية جديدة مناهضة للهيمنة الأطلسية الامريكية،تستحضر في صراعها المصالح الاقتصادية الاستراتيجية والخصوصيات الحضارية للدول والشعوب بدل الخلفيات الأيديولوجية . وهي الفترة التي كان المغرب قد تنبه لها ، ولكل ما كانت تؤشر عليها من تحولات مستقبلية في النظام العالمي . توجت حينها بزيارات متبادلة على اعلى المستويات بين الرباط و موسكو و بكين .ترجمت اتفاقيات تجارية واقتصادية مهمة وذلك إدراكا منه بضرورة تنويع شراكاته الدولية . ولن اقول الجزائر التي بحكم علاقاتها التاريخية بالدولتين وخاصة روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، كانت تتوفر دائما على علاقات متميزة معهما ،خاصة في مجالي الأمن والدفاع والتي عملت على تطويرها لتشمل مجالات اقتصادية وتجارية وبنيات تحتية . وهو ما كان سينعكس ايجابا على علاقتهم الثنائية.
لكن مع الاسف فقد حاد المغرب عن هذا المسار الذي رسمه لسياساته الخارجية وحتى لمسارات أخرى متعلقة بـ أوراش إصلاحية داخلية لم تكتمل لأسباب كثيرة منها ما هو مرتبط بضغوطات حلفائه التقليديين الذين رأوا في هذا التوجه تهديدا لمصالحهم الاستراتيجية . مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية وباقي حلفائه الاوروبيين الى لعب ورقة الصحراء المغربية التي يعتبرها هذا الأخير مدخلا لتطوير علاقاته الخارجية، اما لابتزاز المغرب في ملفات اقتصادية .او كخطوة تكتيكية ،كما اتضح لاحقا من اعتراف دونالد ترامب أواخر 2020 بسيادة المغرب على صحرائه ،و ذلك لجره الى صفها ودفعه لتطبيع علاقاته بالكيان الاسرائيلي وربطه أمنيا ودفاعيا بهما . بما يعني ذلك من ابتعاد نسبي عن كل من الصين وروسيا . والدفع بهاتين الاخيرتين الى الابقاء عن علاقات حذرة معه بصفته شريكا غير موثوق فيه. ومنها ما هو مرتبط بأسباب ذاتية لها علاقة بعودة النخب المحافظة المعروفة بولائها للغرب ولاسرائيل لمراكز صنع القرار .وجلهم تكنوقراط تلقوا تعليمهم في المدارس الأمريكية والفرنسية .و ارتبطوا معهما بمصالح اقتصادية قوية وذلك دون ان يولوا الاهمية للتغيرات العميقة التي يشهدها النظام العالمي ،ولا لمصالح المغرب الاستراتيجية .في مقابل خفوت دور بعض الفعاليات التي كانت محسوبة على اليسار التي التحقت بمحيط مركز القرار مباشرة بعد مرحلة انتقال العرش للملك محمد السادس .و شاركت من موقع المسؤولية في الكثير من الأوراش الكبرى التي أطلقها المغرب سواء على مستوى السياسات الداخلية كورش الإنصاف والمصالحة ،والجهوية المتقدمة، والحكم الذاتي في الصحراء واصلاح الدستور الخ…او حتى على مستوى السياسات الخارجية خاصة في الجانب المتعلق بالانفتاح على القوى العالمية الصاعدة في شرق القارة. .لكن ان كان هذا حال المغرب الذي ألقت به من جديد النخب التكنوقراطية السالفة الذكر في أحضان الغرب الأطلسي تحت ذريعة دعم هذا الأخير لملف الصحراء المغربية .وهي الذريعة التي لم تصمد أمام الوقائع السياسية التي تمارسها هذه القوى، والتي حولت هذه القضية الى ورقة ابتزاز للمغرب في ملفات كثيرة . وهو ما دفع بالمغرب مؤخرا الى الامتناع عن تلبية الدعوة لحضور مؤتمر السلام الأخير حول أوكرانيا الذي احتضنته سويسرا كرد فعل عن هذا الابتزاز الفاضح وعدم دعوتها لحضور اجتماع الدول السبع في مقابل دعوة الجزائر . علما كذلك ان هذا التحول جاء في زمن يشهد بداية انحسار النفوذ الاوروبي والامريكي لصالح قوى عالمية صاعدة مما يجعل هذا التوجه شاذا ولا افق له من الناحية الاستراتيجية .
ن كان هذا وضع المغرب ،فإن الجزائر وبعد ان ارتبطت تاريخيا بالشرق .نجدها الآن تحذو حذو المغرب. خاصة بعد رفض طلبها للانضمام الى منظمة شنغهاي للتعاون في يوليوز 2023 ورفض طلبها للانضمام الى مجموعة بريكس مرة اخرى في غشت من نفس السنة .بل أكثر من ذلك تقوم على توطيد علاقات ثنائية مع دول أوربا المحتاجة للطاقة الجزائرية كبديل عن الطاقة الروسية .وفي نفس الآن معاقبة إسبانيا بعد اتخاذ هذه الأخيرة موقفا مؤيدا لطرح الحكم الذاتي بالصحراء ، مما يعد رسالة لباقي دول الاتحاد .ويظهر مدى توظيف الجزائر لملف الطاقة من أجل معاكسة المغرب في قضية يعتبرها وطنية . علما ان الجزائر من حقها الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والتجارية إزاء الاتحاد الذي دخل معها في نزاع حول تخليها عن التزاماتها التي تضمنتها اتفاقية الشراكة التي وقعتها سنة 2002 . اضف الى ذلك رسائل الود في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية آخرها اللقاء الأخير للرئيس الجزائري مع الرئيس الأمريكي على هامش اجتماع الدول السبع في إيطاليا التي دعي إليها الرئيس عبد المجيد تبون ،و لم يستدعى إليها المغرب .علما ان امريكا كذلك ،وفي سياق اللعب على الحبلين سبق ان طرح نائب وزير خارجيتها مبادرة لحل النزاع في الصحراء الغربية حسب الوصف الأمريكي عند زيارته الجزائر في شتنبر 2023 والتي امتنع المغرب عن الإدلاء بأي تصريح بشأنها ويعمل فريق بايدن حاليا على احيائها مجددا . دون إغفال علاقات الجزائر المتوترة مع دول الساحل التي تعد حليفة لروسيا. بالتالي فأن التقارب الجزائري الاطلسي غير مفهوم ،وغير منسجم مع توجهاتها التاريخية المناهضة للاستعمار. ومعاكس للتطورات التي يشهدها النظام الدولي الحالي الذي يؤشر استراتيجيا على أفول الغرب لصالح قوى عالمية جديدة .اللهم اذا وضعنا هذا التوجه في سياق سياسة ردود الأفعال عن ما سبق ذكره . ورغبتها في معاكسة المغرب في ملف الصحراء الذي يبدو أن كلا البلدين قد وضعه في الموقع الخطأ. لأن الغرب بطبيعته الاستعمارية يتقن فن افتعال الأزمات الدولية والداخلية للدول من أجل ضمان سيطرته ، ولا مصلحة له في حل هذه الأزمة التي يوظفها لابتزاز البلدين الجارين .
خلاصة :
عندما استحضرت المملكة العربية السعودية التي استطاعت في ظرف وجيز ان تعيد النظر في سياساتها الداخلية والخارجية. وتبني شراكات استراتيجية على قاعدة رابح رابح مع القوى العالمية الصاعدة ضدا على ارادة حليفتها التقليدية أمريكا ، رغم الضغوط التي تتعرض لها .أولها عدم الاستجابة لطلب الغرب الأطلسي للتخلي عن التزاماتها مع مجموعة ابيك بلوس التي شكلتها بمعية روسيا. وآخرها عدم تجديدها لاتفاقية بترودولار التي انتهت مدة صلاحيتها خلال هذا الشهر . فأني استحضر كذلك انعكاس هذا التوجه على علاقاتها بعدوتها إيران التي تربطها كذلك علاقات استراتيجية بكل من روسيا والصين اللتين ، وبحكم تشابك المصالح ، ومن أجل توفير المناخ الصحي لتطوير الشراكات الاقتصادية والتجارية وتمكين الدولتين المتخاصمتين من ولوج التكتلات الإقليمية والدولية الجديدة .كان لابد من ترجمة كل هذا بمصالحة تاريخية بين البلدين الجارين بوساطة صينة و بدعم من روسيا .اقول هذا حتى اذكر المغرب والجزائر أن حل الازمة التي تنخر علاقة البلدين توجد في الشرق وليس في الغرب. .وان التوجه نحو أمريكا وأوروبا ليس بالشيء المفيد لهما على المستوى الاستراتيجي الذي ينحو لصالح القوى العالمية الصاعدة و لن يفيد في تحسين علاقة البلدين .بل سيزيد في إشعال فتيل الصراع بينهما من خلال تحويل هذه القوى، ذات النزعة الاستعمارية ، ملف الصحراء إلى ورقة ابتزاز للدولتين .هذا في الوقت الذي كان من الممكن حل هذا النزاع لو نهجتا خيار تعدد الشراكات مع اعطاء الافضلية للأقطاب الصاعدة. خاصة وننا دخلنا مرحلة الوضوح في التموضعات الاستراتيجية .وهي القوى التي كانت ستتدخل ايجابيا في علاقة البلدين لتيسير الاستثمار والشراكات الاقتصادية التي تتطلب بيئة سياسية سليمة .ولنا في علاقة السعودية وإيران خير مثال . رغم أن الصراع بين الدولتين كان قد أخذ أبعادا طائفية خطيرة.
د.تدمري عبد الوهاب
طنجة في 18 يونيو 2024