العقوبات البديلة في المغرب: خطوة نحو العدالة التصالحية وتحديات التنزيل

الرباط، 2 ماي 2025 (جيل24 -ومع)

أكد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، محمد صالح التامك، خلال لقاء تواصلي وطني نظمه المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالرباط، التزام المندوبية الكامل بتفعيل قانون العقوبات البديلة (رقم 43.22)، مؤكدًا حرصها على تعبئة كافة الإمكانيات لضمان نجاح هذا المشروع الإصلاحي. وفي ظل شعار “القضاء في خدمة الإدماج”، دعا التامك إلى اعتماد نهج تدريجي في تنزيل القانون، يرتكز على تقييم كل مرحلة لاستخلاص الدروس وتطوير الأداء، بهدف بلورة نموذج مغربي متميز يتجنب إخفاقات تجارب دولية سابقة. يأتي هذا اللقاء في سياق جهود الدولة لإصلاح منظومة العدالة الجنائية، لكن التحديات التنظيمية والمجتمعية تظل قائمة، مما يستدعي تحليلًا معمقًا للفرص والعقبات.

نهج تدريجي لضمان النجاح

في كلمته، شدد التامك على أهمية المقاربة التدريجية في تنفيذ قانون العقوبات البديلة، مشيرًا إلى أن هذا النهج يتيح تقييم كل مرحلة بشكل منفصل لتصحيح المسار وتعزيز الأداء. وأوضح أن الهدف هو “توحيد جهود السلطات القضائية، المؤسسات السجنية، والفعاليات المجتمعية لخلق نموذج مغربي يتماشى مع الخصوصيات الوطنية”. هذا التوجه يعكس وعيًا بالتحديات التي واجهت دولًا أخرى، مثل تركيا وجنوب إفريقيا، حيث أدت القيود اللوجستية وضعف التكوين إلى فشل جزئي في تطبيق العقوبات البديلة.

نشيرا أنه وفقًا لتقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عام 2023، فإن أنظمة العقوبات البديلة في دول مثل السويد والنرويج حققت نجاحًا بفضل التكامل بين القضاء، المؤسسات الاجتماعية، والمجتمع المدني. هذا النموذج يدعم رؤية التامك، لكنه يبرز الحاجة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتكوين لتكرار هذا النجاح في المغرب.

التامك أشار إلى أن القانون يمنح القضاء صلاحيات واسعة للإشراف على تنفيذ العقوبات البديلة ومراقبة سلامتها، بينما تتولى المندوبية مهمة التتبع التنفيذي. هذا التقاسم للأدوار يتطلب تنسيقًا دقيقًا بين الجهات المعنية، خاصة في المراحل الأولية التي ستشهد تحديات لوجستية وتنظيمية. وأكد أن “التعاون بين السلطة القضائية والمؤسسات السجنية هو مفتاح النجاح”، مشيرًا إلى أن أي خلل في التنسيق قد يعيق تحقيق الأهداف المرجوة.

تحديات جديدة للمندوبية: من السجون إلى الفضاء المفتوح

أوضح التامك أن تنفيذ العقوبات البديلة يُضيف مهمة جديدة إلى مهام المندوبية التقليدية المرتبطة بالعقوبات السالبة للحرية. هذه المهمة تتطلب إعادة هيكلة نمط التدبير، خاصة أن موظفي المؤسسات السجنية سيعملون لأول مرة خارج أسوار السجون، في بيئة مفتوحة تتطلب مهارات مختلفة. وأكد أن “المندوبية ستعمل على تأهيل العنصر البشري من خلال تكوينات أساسية ومستمرة، لتزويدهم بالكفاءات اللازمة للتعامل مع الأشخاص في حالة سراح، والانتقال من أسلوب المراقبة داخل السجون إلى التتبع في الوسط المفتوح”.

نذكر أنه بحسب دراسة للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي (PRI) عام 2022، فإن نجاح العقوبات البديلة يعتمد على توفر كوادر مدربة تتقن مهارات التواصل، التقييم النفسي، والإشراف الاجتماعي. في المغرب، يُقدر عدد موظفي المندوبية بحوالي 10,000 موظف (حسب تقرير المندوبية لعام 2023)، لكن نسبة ضئيلة منهم تلقت تكوينًا متخصصًا في إدارة العقوبات غير الحبسية، مما يستدعي استثمارًا عاجلاً في التكوين.

كما أشار التامك إلى ضرورة إعداد موظفي السجون نفسيًا ومهنيًا لهذا التحول، حيث سيحتاجون إلى مهارات جديدة مثل إدارة السلوك في سياقات اجتماعية مفتوحة وتطبيق تدابير رقابية دون المساس بكرامة الأفراد. هذا التحول ليس مجرد تغيير إداري، بل يتطلب ثورة في ثقافة العمل داخل المندوبية.

أهداف أبعد من العقوبة: تغيير العقليات

أبرز التامك أن العقوبات البديلة لا تقتصر على تقليل الاكتظاظ في السجون أو تبني مقاربات إنسانية للجرائم البسيطة، بل تهدف إلى تغيير التمثلات المجتمعية حول الجريمة، الجاني، ومفهوم العقوبة. وأوضح أن هذه العقوبات “ليست إفلاتًا من العقاب، بل آلية تصحيحية تهدف إلى إعادة تأهيل المخالفين وإدماجهم في المجتمع”. هذا التوجه يتماشى مع مبادئ العدالة التصالحية، التي تركز على إصلاح الضرر بدلاً من الانتقام، وتشجع المجتمع على احتضان الجانحين البسيطين، خاصة من يرتكبون الجرائم لأول مرة.

للاشارة فحسب إحصائيات المندوبية العامة لعام 2024، يستقبل السجون المغربية حوالي 90,000 سجين سنويًا، 40% منهم بسبب جنح بسيطة مثل السرقة الصغرى أو الشيكات بدون رصيد. تطبيق العقوبات البديلة قد يقلل هذا العدد بنسبة 20-30%، حسب تقديرات خبراء العدالة الجنائية، مما يخفف الضغط على السجون ويعزز فرص إعادة التأهيل.

القانون يحدد العقوبات البديلة في أربعة أصناف: العمل للمنفعة العامة، المراقبة الإلكترونية، تقييد الحقوق أو فرض تدابير رقابية/علاجية، والغرامة اليومية. هذه العقوبات تُطبق على الجنح التي لا تتجاوز عقوبتها خمس سنوات حبسًا نافذًا، مما يعكس رؤية إصلاحية تهدف إلى تحقيق التوازن بين العقاب والإدماج.

تحديات التنزيل: بين الطموح والواقع

رغم الطموحات الكبيرة، يواجه تنزيل القانون تحديات عديدة. أولها نقص الموارد البشرية المؤهلة، حيث تتطلب المراقبة الإلكترونية والعمل الاجتماعي أجهزة تقنية وكوادر مدربة، وهي غير متوفرة بكثرة في المغرب. ثانيًا، قد تواجه العقوبات البديلة مقاومة اجتماعية، حيث لا يزال جزء من المجتمع يربط العقوبة بالسجن كشكل من أشكال الانتقام. ثالثًا، يتطلب التنسيق بين القضاء، المندوبية، والمجتمع المدني آليات عمل واضحة، وهو ما قد يستغرق وقتًا لتطويره.

في سياق مشابه، واجهت مصر تحديات في تطبيق العقوبات البديلة بعد إقرارها عام 2018، بسبب نقص التشريعات التنفيذية وضعف البنية التحتية. المغرب، الذي يمتلك تجربة رائدة في إصلاح السجون (مثل برنامج “مصالحة” لإعادة تأهيل السجناء)، قد يكون في وضع أفضل، لكنه بحاجة إلى تمويل إضافي ودعم دولي لتذليل هذه العقبات.

وجهة نظر الجريدة:

من منظور موضوعي، يُعد قانون العقوبات البديلة خطوة إصلاحية متقدمة تعكس التزام المغرب بمواكبة المعايير الدولية في العدالة الجنائية. المقاربة التدريجية التي دعا إليها التامك تُظهر واقعية في التعامل مع التحديات، لكن نجاح هذا المشروع يعتمد على عدة عوامل:

  • التمويل والموارد: يجب تخصيص ميزانية كافية لتأهيل الكوادر وتطوير البنية التحتية، مثل أنظمة المراقبة الإلكترونية.
  • التوعية المجتمعية: هناك حاجة إلى حملات توعية لتغيير التصورات السلبية حول العقوبات البديلة، مع إشراك المجتمع المدني في برامج إعادة التأهيل.
  • التنسيق المؤسسي: يتطلب الأمر إنشاء لجنة وطنية للإشراف على تنفيذ القانون، تضم ممثلين عن القضاء، المندوبية، والمجتمع المدني.

رغم أهمية القانون، فإن تركيزه على الجنح البسيطة قد يحد من تأثيره على المدى الطويل إذا لم يُصاحبه إصلاح شامل للنظام القضائي، بما في ذلك تسريع إجراءات المحاكمات وتقليل التوقيف الاحتياطي. كما أن غياب بيانات دقيقة حول عدد المستفيدين المحتملين من القانون يثير تساؤلات حول جاهزية المندوبية للتطبيق الفعلي.

نحو مجتمع متسامح

يُمثل قانون العقوبات البديلة خطوة طموحة نحو بناء نظام عدالة جنائية أكثر إنسانية وتصالحية في المغرب. تصريحات محمد صالح التامك تؤكد التزام المندوبية بتفعيل هذا القانون، لكن النجاح يتطلب جهودًا مشتركة بين المؤسسات والمجتمع. في سياق عالمي يشهد تحولات نحو العدالة الإصلاحية، يمكن للمغرب أن يقدم نموذجًا متميزًا إذا نجح في التغلب على التحديات اللوجستية والثقافية.

إن بناء مجتمع متسامح يحتضن أبناءه الجانحين ليس مجرد هدف قانوني، بل رؤية إنسانية تستحق الدعم والمتابعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى