مقال استقصائي: الألتراس في المغرب.. شغف كروي أم ملاذ شبابي؟

في مدرجات الملاعب المغربية، حيث تتعالى الهتافات وتتماوج الأعلام، تبرز مجموعات الألتراس كظاهرة اجتماعية فريدة، تجمع بين شغف كروي لا حدود له وتعبير شبابي معقد. هؤلاء الشباب، الذين يمثلون فئة متميزة من المشجعين، لا يكتفون بحضور مباريات فرقهم المفضلة، بل يحولون التشجيع إلى أسلوب حياة يتجاوز حدود الملعب.
لكن، ما الذي يدفع هؤلاء الشباب إلى الانضمام لهذه المجموعات؟ وهل الألتراس مجرد مشجعون متعصبون، أم أنها تعكس أبعاداً اجتماعية وسياسية أعمق؟
هذا المقال الاستقصائي يغوص في عالم الألتراس المغربية، مستنداً إلى دراسات أكاديمية، ملاحظات خلال حضوري لمقبلات كرة القدم لفريق النهضة البركانية، كما اعتمدت على بعض التحليلات السوسيولوجية للباحث المغربي سعيد بنيس.
الألتراس: من هم وكيف يعملون؟
الألتراس ليسوا مجرد مشجعين تقليديين يهتفون لفريقهم عند الفوز ويصمتون عند الهزيمة. إنهم فئة متفردة، تتميز بحبها العميق للفريق، وانتمائها الذي يصل أحياناً إلى حد التعصب.
يواصلون التشجيع طيلة 90 دقيقة، بغض النظر عن نتيجة المباراة، في طقوس تمتد من المدرجات إلى الشوارع. الاستعداد للمباريات يتطلب ساعات طويلة من التنظيم، تصميم اللافتات، وإعداد الأهازيج، مما يجعل الألتراس يعيشون حياة موازية مكرسة لفريقهم.
على عكس الجمعيات الرسمية، تعمل مجموعات الألتراس خارج أي إطار قانوني، لكنها تخضع لقواعد داخلية صارمة. لكل مجموعة تنظيم هرمي محكم، يشمل قادة (يُطلق عليهم أحياناً “الكابو”)، أعضاء نشطين، ومتعاطفين. لديهم طقوسهم الخاصة، مثل الأهازيج المنسقة والعروض البصرية (التيفو)، ومنتجاتهم المميزة كالأوشحة والملصقات. هذا التنظيم المحكم مكنهم من استقطاب أعداد كبيرة من الشباب، خاصة من الفئات العمرية بين 15 و30 سنة، وفقاً لدراسات وطنية ودولية تناولت الظاهرة.
جاذبية الألتراس: لماذا الشباب؟
منذ ظهورها في المغرب عام 2005، استطاعت مجموعات الألتراس، مثل “غرين بويز” (الرجاء البيضاوي)، “الوينرز” (الوداد البيضاوي)، و”الإيغلز” (الجيش الملكي)، أن تجذب شريحة واسعة من الشباب من مختلف الخلفيات الاجتماعية والفكرية. هذا التنوع يميز الألتراس عن التنظيمات السياسية أو الاجتماعية التقليدية، التي غالباً ما تعجز عن توحيد هذه الفئات تحت مظلة واحدة.
بحث ميداني أجراه الكاتب مع أعضاء من هذه المجموعات كشف أن الألتراس تمثل “ملاذاً” للشباب، حيث يجدون فيها منصة للتعبير عن أنفسهم في مجتمع غالباً ما يفرض قيوداً تراتبية صارمة. داخل الألتراس، تنهار الحواجز الطبقية والعمرية، وتتشكل علاقات أفقية قائمة على التضامن. يقدم الأعضاء دعماً مالياً وعاطفياً لبعضهم البعض، ويوفرون سنداً قد يفتقده البعض داخل أسرهم. أحد أعضاء “غرين بويز”، الذي رفض الكشف عن اسمه، قال: “في الألتراس، أشعر أنني أنتمي إلى عائلة حقيقية. هنا لا أحد يسألك عن وظيفتك أو مستواك الدراسي.”
ثقافة الألتراس: هامشية أم قبلية؟
تناولت دراسات سوسيولوجية ظاهرة الألتراس من زوايا متعددة، وصنفتها كـ”ثقافة فرعية” أو “ثقافة هامشية”، بل ذهب البعض إلى وصفها بـ”القبلية الجديدة”. هذه الثقافة، التي استوردت من أوروبا (خاصة إيطاليا) إلى المغرب، تتجاوز التشجيع الرياضي لتصبح أسلوب حياة. الألتراس لا يقتصرون على الهتاف في المدرجات، بل يصممون أهازيجهم بعناية، تعكس أحياناً مواقف اجتماعية أو سياسية.
خلال فترة الربيع العربي (2010-2011)، برزت الألتراس كقوة تعبيرية، حيث استخدمت المدرجات لرفع شعارات تنتقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية. على سبيل المثال، ردد أعضاء “الوينرز” أهازيج تنتقد الفساد وتطالب بالعدالة الاجتماعية، مما جعل المدرجات منصة للتعبير الشبابي. لكن، على عكس التنظيمات السياسية، حافظت الألتراس على طابعها الشعبي، رافضة التحول إلى حركات سياسية منظمة. أحد الباحثين في علم الاجتماع، الدكتور محمد الصغير، يرى أن “الألتراس تمثل صوت الشباب المحبط، لكنها تفضل البقاء في إطار التعبير الرمزي بدلاً من الانخراط في العمل السياسي المباشر.”
الألتراس كمرآة للشباب المغربي
الألتراس ليست مجرد ظاهرة رياضية، بل مرآة تعكس تطلعات وإحباطات جيل الشباب المغربي. بحسب مقابلات أجريت مع أعضاء من مجموعات مختلفة، فإن الانضمام إلى الألتراس يمنح الشباب إحساساً بالهوية والانتماء، في ظل غياب فضاءات أخرى تلبي هذه الحاجة. كما أنها توفر وسيلة لتفجير الطاقة الشبابية، وتحقيق الذات من خلال المشاركة في تنظيم عروض جماعية مبهرة.
لكن هذه الظاهرة لا تخلو من التحديات. غياب الإطار القانوني يجعل الألتراس عرضة للانزلاق إلى أعمال عنف أو صدامات مع السلطات. في السنوات الأخيرة، شهدت عدة ملاعب مغربية حوادث شغب تورطت فيها مجموعات ألتراس، مما أثار جدلاً حول ضرورة تنظيم هذه المجموعات. أحد المسؤولين الأمنيين، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، قال: “الألتراس طاقة هائلة، لكنها تحتاج إلى توجيه لتجنب الانحرافات.”
مستقبل الألتراس: فرص وتحديات
إذا تمت دراسة مجموعات الألتراس بشكل معمق ومنتظم، كما يقترح الكاتب، فقد تكون مفتاحاً لفهم عقلية الشباب المغربي وتطلعاته. الألتراس ليست مجرد تعبير عن الشغف الكروي، بل فضاء يعوض عن إحباطات اجتماعية واقتصادية، ويمنح الشباب إحساساً بالحماية والتضامن داخل مجموعة متماسكة. لكن هذا الفضاء يحتاج إلى إطار يوازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية.
في النهاية، تظل الألتراس ظاهرة معقدة، تجمع بين الإبداع والتمرد، الحماس والتحدي. إنها صوت الشباب الذي يبحث عن مكان له في مجتمع متغير، وتحدٍ للسلطات والمجتمع لفهم هذه الطاقة وتوجيهها نحو مسارات بناءة. فهل ستظل الألتراس ملاذاً شبابياً، أم ستتحول إلى قوة اجتماعية أكثر تأثيراً؟ الإجابة تكمن في كيفية تفاعل المجتمع مع هذه الظاهرة المتفردة.
المصادر :
- دراسات سوسيولوجية حول الألتراس في المغرب (جامعة محمد الخامس، 2018).
- تقارير إعلامية من مواقع مثل hespress.com وle360.ma.
- مقابلات ميدانية مع أعضاء مجموعات ألتراس (2023-2025).