الشعب التونسي يعيش مرحلة التمرين الديمقراطي ..

ومن الطبيعي جدا أن تتعثر تجربته.. وأن تعتريها بعض النقائص..المهم أن يكون على استعداد دائم لتقبل نتائج اختياراته كأي شعب حر.. وأن يسعى باستمرار إلى تصحيح المسار..
الشعب التونسي هو من أتى بقيس سعيد إلى الرئاسة وبأعلى نسبة من الأصوات.. وهو من اختار أغلبية نيابية من حركة النهضة.. كل ذلك في انتخابات لم يطعن أحد في نتائجها..لكن الأهم أن يدرك الجميع أن ذلك لا يعني التوقيع لأحد على بياض..
الدستور التونسي لم يهبط على الشعب من السماء.. وهو دستور تأسبسي للدولة الديمقراطية .. لكنه اختار نظاما مختلطا لا هو بالبرلماني ولا هو بالرئاسي..وذلك في إطار من التوافقات
والمواءمات والتوازنات الصعبة.. وقد وزع بمقتضى ذلك مجمل الاختصاصات والصلاحيات بين الرؤساء الثلاث.. لكن بشكل يعطي مساحة كبيرة للتأويل.. وفي غياب المحكمة الدستورية..يبقى كل تأويل خاضعا بالضرورة والبداهة لشروط الصراع السياسي..وضوابط تحددها قوة الأطراف المتصارعة والمتحكمة.. ٨
لهذا كله.. لا يسع الشعب التونسي إلا أن يستحضر البعد السياسي إلى جانب الاقتصادي والاجتماعي في التجربة التي عاشها على مدى عشر سنوات بعد ثورة الياسمين..الحكم على التجربة في هكذا وضع مقدم على مساءلة النوايا.. والتجربة أكدت أن أحزاب الأغلبية الحكومية عجزت عن تدبير المرحلة.. وفشلت في تحقيق أبسط طموحات وشعارات الثورة.. بل غلبت مصالحها على مصالح الوطن والمواطنين..وحولت المؤسسة النيابية إلى حلبة صراع هامشي يعبر عن فقرها الديمقراطي وضعف حسها الوطني..فكان لا بد أن يحصل ما يشبه البلوكاج في كل شيء.. وأن نزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءا..
الرئيس قيس سعيد بادر إلى حلحلة الوضع على طريقته.. ومن منظور قراءته للمادة 80 من الدستور.. اتفق معه من اتفق واختلف من اختلف..لكن توصيف الأمر بالانقلاب فيه الكثير من التجني..لأن الانقلاب على الثورة بدأ في الحقيقة منذ زمن بعيد.. إذا اعتبرنا أنها (الثورة) لم تكن هدفا.. إنما طريقا إلى تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.. وهو ما انحرفت عنه كتيبة الحكم بكل أطيافها..مما يفيد الفشل التام في إحداث قطيعة نسبية مع الماضي.. بل تفاقم الوضع المهترئ يكاد يجر البلاد إلى شفا الانهيار الشامل.. أما إن كان المقصود هو انقلاب على الدستور..فقد تبين أن هذا الأخير بالصيغة التي تم التوافق حولها.. حمال أوجه وقراءات.. وخير دليل على ذلك أن فقهاء القانون الدستوري أنفسهم اختلفوا في الأمر.. ولم يتبنوا رؤية موحدة في الموضوع..
العبرة من هذه التداعيات المتواترة.. أنه لم يعد بإمكان أحد أن يتحدث باسم الثورة. فأحرى أن يتحدث باسم الشعب..وأن الأغلبية الحاكمة مسؤولة إلى حد بعيد عن هذا المنزلق الخطير.. لأن نجاحها لو تحقق بالقدر المعقول .. كان سيعفي البلد من كل ما يحدث..ولأنها راهنت منذ البداية على الوقت.. ولا شيء غير الوقت..وكلما جاءت حكومة.. بدا أنها أسوأ من سابقتها.. وهو ما لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية..
ما هو الحل؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه بعيدا عن التحديد الدقيق لمفهوم الثورة أولا..وعن سياقات إنتاجها في ظروف لم تكن فيها البدائل جاهزة على مستوى القاعدة الشعبية..
ولأن الثورة فعل تراكمي غير معزول عن تطور الوعي السياسي والفكري.. ليس من حقنا أن نقرأ المشهد بعيون تحريضية تقفز على الواقع.. لتقزم الموضوع إلى مجرد مؤامرة تستهدف الثورة..فالرئيس نفسه لم يحدد برنامجه لما بعد القرارات.. .إضافة إلى كونه يفتقر إلى حزام سياسي داعم.. رغم كل ما يقال عن دعم شعبي يبقى جزئيا في كل الأحوال.. وربما يجد نفسه في ورطة بعد تعيينه لرئيس حكومة لن تكون له الشرعية في غياب المؤسسة النيابية..الأمر معقد للغاية.. وأي تسطيح لتفاعلاته وتداعياته.. لن يخدم الشعب التونسي.. ولن يساعده على استرداد عافيته..فالصراع مفتوح على كل الاحتمالات..وحده الحفاظ على جذوة المسار الديمقراطي على علاته .. يمكن أن يشكل مخرجا من الأزمة..ولم نسمع لحد الآن ما يفيد أن قيس سعيد قادر على المغامرة بتحويره..ليس لأنه لا يرغب..أو لأنه يرغب في الاستبداد بالسلطة كما يزعم خصومه.. بل لأنه لم يفصح عن أية رؤية سياسية لاستشراف الحلول..في كل الخطابات التي حاولت تفسير ما يحدث.. لم أجد افضل من خطاب الاتحاد العام التونسي للشغل.. خطاب هادئ متزن.. همه الوحيد البحث عن صيغ أو خارطة طريق لتجاوز لأزمة.. بدل التباكي على مصير ساهمت غالبية الطبقة السياسية في إنتاجه.. والأهم في كل هذا.. أن يكون القاسم المشترك بين جميع الأطراف.. تسييج المصلحة الوطنية ضد كل الاختراقات الخارجية..أيا كانت أهدافها ووسائل عملها.. وفي الأخير لا تفوتنا الإشارة إلى أن ما تعيشه حركة النهصة.. لا ينفصل عما آلت إليه أوضاع الجماعة الأم..والتي كان لا بد أن تدفع ثمن غرورها وانشغالها بفقه التمكين على حساب ثقافة الحوار الوطني..