علي الرباوي في “ساعة شعر”: رحلة شاعر بين التراث والحداثة

عبدالعالي الجابري – وجدة 26 ابريل 2025
في الحلقة الرابعة من برنامج “ساعة شعر”، كان الشاعر المغربي علي الرباوي ضيفًا مميزًا، حاملاً معه إرثًا شعريًا غنيًا وتجربة أدبية تمتد لعقود. هذا الظهور لم يكن مجرد عرض لقصائد، بل كان فرصة لاستكشاف مسيرة شاعر جمع بين الجذور العربية الكلاسيكية وروح الحداثة، مع تقديم رؤى نقدية عميقة حول الشعر المعاصر.
علي الرباوي: شاعر الجيل السبعيني
علي الرباوي، المولود عام 1949 بقصر أسرير (تنجداد، الراشيدية)، ينتمي إلى جيل السبعينيات الشعري في المغرب، وهي فترة شهدت تحولات ثقافية وسياسية كبيرة في العالم العربي. بدأ الكتابة في سن مبكرة، وكان الشاعر الجزائري أبو القاسم الخمار أول من شجعه على النشر في جريدة “الشعب” عام 1970، ليبدأ مسيرة حافلة بالإبداع. عمل الرباوي مدرسًا للغة الفرنسية، ثم أستاذًا مساعدًا بكلية الآداب بجامعة محمد الأول بوجدة، وانضم إلى اتحاد كتاب المغرب عام 1976 ورابطة الأدب الإسلامي العالمية عام 1985.
في “ساعة شعر”، برز الرباوي كشاعر يمتلك حساسية أدبية رفيعة، حيث قدم قراءات لقصائد من أعماله المبكرة التي تعود إلى الفترة بين 1964 و1973، مثل “يا غزال” (1968) و”نسيمة الصبح” (1970). هذه القصائد، التي اتسمت بالطابع الليري، عكست قدرته على استلهام الصور الشعرية التقليدية مع إضفاء لمسة شخصية تعبر عن تجربته الذاتية. كما أشار إلى تأثره بالشعراء الكلاسيكيين مثل أحمد شوقي وابن زيدون، حيث بدأ بكتابة “معارضات” لنصوصهم كتمرين إبداعي لصقل موهبته.
في إطار الأنطولوجيا الشعرية “Premiers Écrits d’Ali Rebawi (1964-1973)”، يقدم الشاعر المغربي علي الرباوي شهادة أدبية غنية تروي مسار تطوره الشعري خلال مرحلته الأولى في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. من خلال حوار مُعمق، يكشف الرباوي عن تأثيراته الأدبية، سياقاته الاجتماعية والسياسية، وتجاربه في صياغة صوت شعري يجمع بين التقاليد العربية الكلاسيكية وروح الحداثة.
هذا المقال التحليلي يستعرض أبرز محطات هذه الأنطولوجيا، مُسلطًا الضوء على إسهامات الرباوي في الشعر العربي المعاصر، مع تعزيز النص بمعطيات إضافية لإثراء القارئ.
البدايات: بين المعارضة والتقليد
يُعيد الرباوي في هذا العمل إحياء ذكرياته الأولى كشاعر شاب يبحث عن هويته الأدبية. بدأت تجربته الشعرية بكتابة قصائد تُعد “معارضات” لنصوص شعرية كلاسيكية، في محاولة لمحاكاة جودة أعمال شعراء مثل أحمد شوقي وابن زيدون، إلى جانب شاعر مغربي مرتبط بـ”الجاطي”. هذه المعارضة لم تكن مجرد تقليد، بل محاولة لفهم التقنيات الشعرية التقليدية واستيعابها، وهي خطوة ضرورية في تكوين أي شاعر يسعى لإيجاد صوته الخاص. كما يُشير الناقد الأدبي محمد مفتاح إلى أن المعارضة في الشعر العربي تُعتبر “تمرينًا إبداعيًا” يُمكّن الشاعر من استيعاب التراث قبل تجاوزه.
في هذا السياق، تظهر قصائد الرباوي المبكرة، مثل “يا غزال” (1968) و”نسيمة الصبح” و”أنت والربيع” (1970)، كنصوص ليرية تعكس حساسية شخصية وانفتاحًا على الجمال الطبيعي والعاطفي. هذه القصائد، رغم بساطتها النسبية، تُظهر قدرة الرباوي=on على توظيف الصور الشعرية التقليدية بطريقة تعكس تجربته الذاتية، مما يجعلها جسراً بين التراث والحداثة.
الشعر الملتزم وقضية فلسطين
من أبرز المحطات في تجربة الرباوي المبكرة موقفه من قضية فلسطين، التي شكلت محور نقاش حاد خلال إحدى القراءات الشعرية عام 1970. في تلك الفترة، كان الشعر العربي يشهد انقسامًا بين دعاة الشعر الملتزم، الذي يخدم القضايا السياسية، وأنصار الشعر الذاتي. الرباوي، الذي واجه انتقادات لعدم تقديمه قصائد عن فلسطين، دافع عن موقفه بكتابة نص نثري تحول لاحقًا إلى قصيدة بعنوان “عن فلسطين”، نُشرت في مجلة “الشهاب” اللبنانية وأُعيد نشرها في “دعوات الحق”.
في هذا النص، الذي أُعيدت تسميته لاحقًا بـ”دو يو سبيك شويبس” مستلهمًا إعلانًا تجاريًا لمشروب “شويبس”، يعبر الرباوي عن رؤية سياسية جريئة: “فلسطين لا تُستعاد بالشعر، بل بالسلاح”.
هذا الموقف، الذي يصفه الرباوي بـ”رأي المرحلة”، يعكس المناخ الفكري لسبعينيات القرن العشرين، حيث كانت الحركات التحررية في العالم العربي ترى في النضال المسلح السبيل الوحيد للتحرير. القصيدة نفسها، بأسلوبها السردي وصورها القوية مثل “لغة العصر هي المدفع لا بيت قصيدة”، تُظهر تأثير شعراء الحداثة مثل نازك الملائكة، مع حفاظها على إيقاع عربي تقليدي.
مع مرور الوقت، تطور موقف الرباوي نحو قضية فلسطين، حيث كتب لاحقًا قصائد رمزية تناولت فلسطين والصحراء المغربية (1973-1975). لكنه لاحظ أن هذه النصوص لم تلقَ رواجًا كبيرًا بسبب طبيعتها غير المباشرة، مما دفعه للتأكيد على أهمية الوضوح في اللغة الشعرية للوصول إلى الجمهور العام.
إيقاع الخبب: صوت الحداثة واليومي
أحد أبرز إسهامات الرباوي في هذه المرحلة هو تبنيه لإيقاع “الخبب”، وهو بحر شعري قليل الاستخدام في الشعر العربي الكلاسيكي، لكنه يتميز بالبساطة والمرونة. يربط الرباوي اهتمامه بالخبب بحبه للغة اليومية، متأثرًا بشعراء مثل صلاح عبد الصبور، الذي استخدم لغة بسيطة قريبة من العامية في أعمال مثل “شريت شاي في الطريق ونطقت نعلي”. يرى الرباوي في الخبب أداة للتعبير عن إيقاع الحياة المعاصرة، حيث يسمح بالحرية الإيقاعية دون التضحية بالموسيقى الشعرية.
في هذا السياق، يمكن اعتبار الخبب تعبيرًا عن محاولة الرباوي للتوفيق بين الشعر العربي التقليدي ومتطلبات الحداثة. كما يشير الناقد عبد الرحمن طنكول إلى أن استخدام بحور مثل الخبب في الشعر الحديث يعكس رغبة الشعراء في استعادة إيقاعات شعبية تعبر عن تجربة الإنسان العادي. قصيدة الرباوي المكرسة لمدينة وجدة (1973) تُعد نقطة انطلاق في استكشافه لهذا البحر، حيث يمزج بين الإحساس المحلي واللغة الحية.
تحديات النشر والتجريب
واجه الرباوي تحديات كبيرة في نشر أعماله المبكرة، تعكس واقع النشر في العالم العربي خلال تلك الفترة. على سبيل المثال، كان عليه تقديم قصيدة “أنت والربيع” إلى “لجنة الكلمات” بقيادة أحمد البيضاوي للحصول على موافقة لتحويلها إلى أغنية، لكنه لم يتلقَ ردًا. كما حاول نشر نصوص تتبع الإيقاع التفعيلي المستلهم من نازك الملائكة، وبعضها تأثر بالشعر الفرنسي المقطعي، في مجلة مصرية تُدعى “الجديد”. لكن وفاة محرر المجلة حال دون نشر ديوانه الأول المزمع بعنوان “أطباق جهنم” عام 1972.
تُظهر هذه التجارب الصعوبات التقنية واللوجستية التي واجهها شعراء تلك الحقبة، حيث كانوا يعتمدون على تقنيات بدائية مثل “الستينسيل” لتوزيع أعمالهم. ورغم ذلك، حظيت نصوص الرباوي بتقدير لاحق من ناقد سوري، مما شجعه على جمع أعماله المبكرة، لكنه يعبر عن أسفه لاستبعاده بعض هذه النصوص في إصدارات لاحقة.
نقد الشعر المعاصر والعودة إلى الكلاسيكية
يقدم الرباوي في هذا العمل نقدًا لاذعًا لظاهرة العودة إلى الشعر الكلاسيكي بين الشعراء الشباب المعاصرين، خاصة في سياق ارتباطها بجوائز أدبية خليجية مثل “أمير الشعراء”. يرى أن هذه العودة ليست نابعة من إلهام حقيقي، بل من دوافع خارجية تتعلق بالمكافآت المالية، مما ينتج عنه شعر يفتقر إلى “الخصوصية” أو الصوت المميز. يقارن ذلك بشعراء من جنوب المغرب وموريتانيا، الذين ينتجون شعرًا شعبيًا أصيلًا يمتد من التقاليد القديمة ويعكس تجربتهم الحياتية.
هذا النقد يضع الرباوي في سياق نقاش أوسع حول أصالة الشعر العربي المعاصر. كما يشير الناقد جابر عصفور إلى أن الشعر العربي في العقود الأخيرة شهد توترًا بين الرغبة في الحفاظ على التراث والسعي نحو التجديد، وهو ما يتجلى بوضوح في موقف الرباوي.
الأدب الإسلامي: رؤية نقدية
في معرض حديثه عن “الأدب الإسلامي”، يرفض الرباوي تصنيفه كأدب ديني بالضرورة، معتبرًا أن الأدب يعتمد على رؤية الشاعر وذوقه الفني، وليس على هوية دينية محددة. يقدم مثالًا بأن قصيدة عن الغزال أو مولد النبي يمكن أن تندرج تحت هذا التصنيف، لكنها تبقى شعرًا عاديًا. هذا الموقف يعكس رؤية حداثية تؤكد على الفردية الإبداعية، ويتماشى مع آراء مفكرين مثل طه حسين، الذي دعا إلى تحرير الأدب من القيود الأيديولوجية.
خاتمة: إرث شعري مستمر
تُعد أنطولوجيا علي الرباوي (1964-1973) وثيقة أدبية قيمة تُظهر مسار شاعر سعى للتوفيق بين التراث والحداثة، بين الشخصي والملتزم، وبين الإيقاع التقليدي والتجريب. من خلال قصائده الليرية*، مواقفه السياسية، وتبنيه لإيقاع الخبب، يبرز الرباوي كصوت شعري متميز في المشهد الأدبي المغربي والعربي. تحديات النشر التي واجهها، ونقده للشعر المعاصر، ورفضه لتصنيفات الأدب الإسلامي، كلها تؤكد على رؤية إبداعية تتجاوز الحدود التقليدية.
هذه الأنطولوجيا ليست مجرد استعادة للماضي، بل دعوة للتأمل في كيفية تشكل الصوت الشعري في سياقاته التاريخية والثقافية.
توضيح:
- مصطلح “القصائد الليرية” يُستخدم في النقد الأدبي للإشارة إلى نوع من الشعر يركز على التعبير عن المشاعر الشخصية، الأحاسيس الذاتية، والتجارب الفردية للشاعر. كلمة “ليرية” مشتقة من كلمة “لير” (Lyric) باليونانية، وهي آلة موسيقية كانت تُستخدم لمرافقة الشعر الغنائي في العصور القديمة، مما يعكس الطابع الموسيقي والعاطفي لهذا النوع من الشعر.