الصراع المغربي الجزائري؛ أو متى يتغلب عقل الدولة على عقل القبيلة؟

في سياق التطورات المتلاحقة لتدهور العلاقات الجزائرية المغربية وآخرها ما صرح به بوريطة في البرلمان المغربي حول نية الجزائر جر المنطقة للحرب .لا بد من الوقوف عند أسباب هذه الازمة التي تنخر علاقة البلدين قبل الخوض في مدى إمكانية حصولها . علما ان هذه الاسباب كثيرة ومتراكمة منذ استقلال البلدين وأن الردع المتبادل يلجم دعاة التصعيد والحرب :
اولا / النزاعات المترتبة عن قضايا مصطنعة خلفها الاستعمار الفرنسي لكلا الدولتين، اضافة الى الاستعمار الإسباني لشمال المغرب و صحرائه الغربية . وهي القضايا التي اصطنعها بشكل متعمد، علما منه أنها ستشكل في المستقبل قضايا نزاعية تعيق التطور الإيجابي للعلاقات بين البلدين الجارين .وفي نفس الآن تتيح لهذه القوى الاستعمارية امكانية استثمار هذه التوترات لخدمة مصالحها الاستراتيجية في مرحلة ما بعد استقلال هذه الدول. وهو ما نجحت فيه من خلال ما تشهدها حاليا علاقات البلدين من توترات ناتجة عن حقل الألغام الذي خلفه الاستعمار والمتمثل في النزاعات الترابية والحدودية سواء في جهة الصحراء الغربية التي جعلتها الدولة الجزائرية ركيزة في عقيدتها الامنية وذلك عبر دعمها اللامحدود لجبهة البوليساريو المطالبة بالانفصال عن المغرب .أو في مسألة اعادة ترسيم الحدود بما يتضمنه ذلك من مطالب للمغرب في الصحراء الشرقية التي اقتطعتها فرنسا من التراب المغربي ، والحقتها بالجزائر التي كانت تعد ضمن مستعمراتها في تلك المرحلة. اضافة الى الجراحات المترتبة عن مرحلة الحرب الباردة التي وضعت البلدين في موضع التضاد بين معسكر شرقي / الجزائر وآخر غربي/ المغرب . مع كل ما ترتب عن هذه التوترات من توجس متبادل و من تفاعلات دفعت الجارين إلى تبني سياسات عدائية تجاه بعضهما البعض وذلك إذا ما استثنينا بعض محطات الانفراج في العلاقات بين البلدين .وهي التوترات التي بلغت حد إعلان الجزائر قطع علاقاتها بالمغرب، وإغلاق الحدود ومنع أجوائها عن الرحلات الجوية المغربية. اضافة الى عمل البلدين على تشجيع حركات انفصالية آخرى سواء في منطقة القبائل الجزائرية، أو في الريف المغربي ، والدخول في سباق تسلح لم يشهد له مثيل منذ استقلال الدولتين . كما أن هذه التوجس المتبادل والتوتر المتصاعد في العلاقات البينية دفع بكلا الطرفين الى التسابق في كسب ولاء قوى دولية بما فيها القوى الاستعمارية السابقة من أجل الاستقواء على بعضها البعض شريطة دعم هذه الدولة او تلك في بعض الملفات البينية العالقة والمصطنعة وذلك في مقابل تقديم تنازلات تجارية واقتصادية وحتى امنية ستضر بالمصالح الاستراتيجية لكلا البلدين. و تسوق من الطرفين، مع الاسف، على انها انجازات وانتصارات على الخصوم.
ثنايا /. ما هو مرتبط بأوضاع البلدين الداخلية السياسية والاقتصادية التي وإن اختلفت ظاهريا بالشكل الذي يبدو فيه المغرب أكثر انفتاحا و عاكسا لمظاهر الثقافة الاستهلاكية من الجزائر نتيجة تبنيه نمط الإنتاج الاقتصادي الحر المتغول. وذلك عكس الجارة الجزائرية التي لا زالت تتلمس الخطوات الاولى في هذا الاتجاه بعد عقود من التخطيط الاشتراكي الممركز من طرف النخب الحاكمة . وهو بالمناسبة ما فسح المجال في كلا البلدين لظهور لوبيات فاسدة احتكرت الثروة والسلطة بعد أن أرست نظام الريع والمحسوبية ،واغتنت عبر نهب المال العام والصفقات المشبوهة .كل هذا في مقابل اتساع دائرة الهشاشة والفقر لدى شرائح واسعة من الشعبين نتيجة غياب الممارسة السياسية الديمقراطية وتحكم اللوبيات السالفة الذكر في الاستحقاقات الانتخابية التي يتم تفصيلها على المقاس. رغم ما يشهده البلدين ظاهريا من تعددية حزبية مصطنعة .يكون من نتائجها مؤسسات تشريعية فاقدة للمصداقية و حكومات صورية مهمتها تنفيذ أجندات اللوبيات النافذة داخل الدولة ،والتي بدورها تلعب دور الوكيل للشركات والمؤسسات المالية العالمية عبر ما تسنه من سياسات عمومية منافية لما تقتضيه مصالح الشعبين في الحرية والكرامة والتنمية المستدامة. وبدل العمل على إصلاح منظومتهما السياسية من اجل ارساء اسس نظام الحكامة الديموقراطية، والقطع مع نظام الريع والفساد ،يعمل كلا النظامين او بالاحرى بعض اللوبيات المستفيدة من حالة التوتر التي تشهدها علاقة البلدين على تصريف الأزمات الداخلية من خلال تغذية هذه النزاعات البينية ،وإظهارها كتهديد خارجي. و داخليا بإحالة بعض المفسدين الذين فاح فسادهم على القضاء وذلك لتخفيف السخط الشعبي الداخلي والظهور بمظهر المخلص من الفساد .
إن الوقوف عند هذه الأسباب التي شكلت تاريخيا مصدر توتر العلاقة بين البلدين سواء تلك المصطنعة من طرف الاستعمار او تلك المرتبطة بغياب الديمقراطية وانتشار منظومة الريع والفساد داخليا.يبين مدى تغذية هذه الأسباب لبعضها البعض واستدامتها لهذا التوتر الذي تجد فيه بعض اللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولتين متنفسا وسبيلا لتصريف السخط الشعبي الداخلي في اتجاه عدو خارجي، عملت على تضخيمه تدريجيا الالة الدعائية المصحوبة ببعض السلوكيات العدائية، حتى اصبح واقعا يهدد سلم وأمن البلدين .
وهو ما يدفعنا للتساؤل حول السقف المطلوب لانهاء هذا التوتر الذي يستنزف موارد الشعبين ويهدد أمن البلدين الجارين. خاصة مع ما نشهد عليه من تصاعد في الحملات الدعائية العدائية و من استفزازات على الحدود، آخرها هجوم البوليزاريو على منطقة المحبس بدعم جزائري. و سباق محموم على التسلح ليشمل احدث ما انتجته المؤسسات العسكرية العالمية وهو ما يصب موضوعيا في اتجاه اندلاع الحرب بين البلدين .رغم أن هذا الاحتمال يبدو مستبعدا نظرا لإدراك الجميع مدى خطورته .لأن أي صراع مسلح من هذا القبيل سيكون مدمرا للبلدين ،ولن يكون فيه لا غالب ولا مغلوب .بل ساحة جديدة للصراع الدولي الحالي نظرا للمكانة الجيوسياسية التي تتمتع بها المنطقة .بل إن الحرب بهذه الأبعاد الجيو ستراتيجية ستفتح المجال كذلك لتدخل القوى المتصارعة دوليا وهو ما سيشكل أيضا تهديدا وجوديا لمصالح القوى المتحكمة في السلطة حاليا في كلا البلدين. وإذا كان الردع المتبادل و كذا الخوف من تحويل المنطقة إلى ساحة للاقتتال الدولي بما يمكن أن ينتج عنه من انفلات امني غير متحكم فيه هو من يلجم المسؤولين في البلدين الى تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. فلماذا الإبقاء على هذا التوتر وعلى وضعية اللاحرب واللاسلم التي تشكل استنزافا مستمرا للموارد المادية والمالية للدولتين. هذا دون احتساب ما يضيع من قدرات وإمكانيات كانت سترقي بالبلدين وتجعلهما قطبا مؤثرا في المنطقة لو تم توظيفها واستغلالها بشكل مشترك في اطار شراكات اقتصادية وتجارية وحتى أمنية ودفاعية ؟ . خاصة ونحن نشهد، في وقتنا الحالي، على تجارب كثيرة وصراعات بين قوى عالمية واقليمية بلغت حد المواجهة العسكرية الغير المباشرة سواء في شرق أوربا أو في بحر الصين او في الشرق الاوسط وافريقيا الخ..وهي قوى تملك من وسائل الردع ما لا يمكن قياسه بما تملكه كل من الجزائر والمغرب .لكن بالرغم من ذاك لم تعمد هذه الدول الكبرى الى قطع علاقاتها الدبلوماسية وحتى الاقتصادية والتجارية بشكل كلي . بل حافظت على مصالحها ،و تعمل على تطوير بعضها خاصة في المجالات الحيوية كالطاقة واليورانيوم المخصب والمعادن التي تدخل في الصناعات الأساسية الخ… بالتالي فأن طول أمد هذا الصراع ،وبغض النظر عن الأسباب ،لا يمكن تفسيره أو إخضاعه لقواعد علم السياسة كون المسؤولين في كلا البلدين لا يشتغلون بمنطق الدولة التي تطوع السياسة لخدمة مصالحها الاستراتيجية ومصالح شعوبها ومواطنيها بل فقط لخدمة مصالح ضيقة وانية .بالتالي تتفادي الانفعالات وردود الأفعال في علاقاتها الخارجية خاصة عندما يكون الردع متوازنا و الحروب غير محسوم في نتائجها .بل لازال يتملكهم منطق العصبية القبلية في تدبير علاقاتهم الدولية التي قد تؤدي بهم الى رهن كل شيء من أجل لا شيء وذلك لو لم يردعهم الخوف من فقدان مصالحهم وامتيازاتهم الضيقة. وهو سلوك لا يختلف كثيرا على ما نشهد عليه لدى الكثير من افراد مجتمعاتنا الذين يدخلون المحاكم ويخسرون ما يملكون على قضايا لا تساوي في شيء قيمة ما خسروه.
خلاصة القول هو متى تدرك النخب الحاكمة في كلا الدولتين أن هذا التوتر في علاقة البلدين، في ظل وضعية اللاحرب واللاسلم التي تخيم على المنطقة؟ تشكل استنزافا حقيقيا للقدرات الهائلة التي يتوفران عليها .و التي من الممكن أن ترقى بكلا الشعبين والمنطقة الى مستوى التكتل المؤثر في ما يشهده العالم من تحولات استراتيجية .وذلك لو تم توظيفها في إطار شراكات اقتصادية و تجارية وأمنية؟. وان الخلاص الوحيد للخروج من هذه الوضعية هو التخلي عن العقلية القبلية في تدبير علاقاتها الخارجية ومصالحها الاستراتيجية لصالح عقلية الدولة الحريصة على مصالح شعوبها وذلك بالشكل الذي تجعل من السياسة علما لفن الممكن .وبالتالي الدخول في حوار جاد ومسؤول حول كل القضايا العالقة التي شكلت ولا تزال مصدرا لتوتر العلاقات بين البلدين.
د. تدمري عبد الوهاب.
طنجة في 15 نونبر 2024