عبد اللطيف وهبي*: الحريات الفردية بين القيم الكونية والثوابت الوطنية

موضوع الحريات الفردية لم يعد ثرفا فكريا كما يحاول البعض اختزاله، بل هو مصلحة وطنية، وحاجة مجتمعية، لا تتعارض مطلقا مع الدين، مثلما سأبين في هذا العرض المفصل الذي سأطرحه بين أيديكم. 

لقد شهد المغربُ ثورةً ناعمةً جعلته يتبوّأُ موقعَ الريادةِ في مختلفِ مجالاتِ العمران، الصناعة، الرياضة، وغيرها، مُحققًا بذلك طفرةً حضاريةً أدهشتِ الكثيرين، وأثارت في الوقت نفسه حفيظةَ الكثيرين. 

وإن كان المغربُ يتطلّعُ اليومَ إلى أن يُصبحَ قوّةَ جذبٍ للمالِ والأعمال، فإنَّ تحديثَ القوانينَ المتعلقةَ بالأحوالِ الشخصيةِ كفيلٌ بتوفيرِ المناخِ الملائمِ لتسريعِ وثيرةِ النموِّ الاقتصاديِّ والتنميةِ البشريةِ، وخلقِ بيئةِ عملٍ مُشجعةٍ على الإنتاجِ والخلقِ والابتكار.

غايتي أنْ أُبَرْهِنَ على أنَّ الحريات الفردية مصلحةٌ وطنيةٌ تستجيبُ لمقتضياتِ الحداثةِ ولا تتعارضُ مع روحِ الدِّينِ الإِسْلاَمِيِّ؛ إذْ أنَّ الإسلامَ والحداثةَ يشتركانِ في القِيَمِ العُلْيَا نَفْسِهَا: الحُرية، الكرامة، المُساوَاة، العَدل، العَفو، المحبَّة، الرَّحمة، الحِكْمة، إلخ. غَيْرَ أنِّي أُمَيِّزُ ابْتِدَاءً بَيْنَ الدِّينِ وَالفَهْمِ التَّارِيخِيِّ للدِّين: فَالدِّينُ شُعُورٌ نَابِعٌ مِن فِطْرةِ كُلِّ شخصٍ بِنحْوٍ عَفْوِيٍّ يتناسبُ مع شَخْصِيَّتِهِ، وذلك وِفْقَ تَعالِيمِ الذِّكْرِ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى]لَا إِكرَاهَ في الدِّين[ ]البقرة 256[، ]الحَكِيمِ  [لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا] ]الإسراء 84[، [شَاكِلَتِه  وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفسٍ إلّا عَليْها ولا تَزِرُ]]البقرة148[،  وَمَا أرسلْنَاكَ إِلاَّ رحْمةً] ]الأنعام 164[، [وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى  ]البقرة 256[،[لا إكراه في الدِّين] ]الأنبياء 107[، [للعَالمِين والآياتِ البيِّناتِ كَثِيرَاتٍ؛ أَمَّا الفَهْم التَّارِيخِيّ للدِّين فَتخْترِقُهُ وِجْهةُ نَظَرٍ تَسلُّطِيَّةٍ، مفادُها أنَّ الدِّينَ نمطٌ واحِدٌ، شاكِلةٌ واحدة، وِجْهةٌ واحِدَةٌ، ما يَعْني الإكْراهَ. والإِكْراهُ مَكْرُوهٌ قُرآنِيٍّ.

بِوِسْعِي الآنَ الدُّخُولَ إِلَى المَوضُوع. 

غَيْرَ أنِّي أَطْلُبُ مِنْكُم قَبْلَ البَدْءِ أنْ تأْذَنُوا لي بِإجْراءٍ احْتِرازِيٍّ أراهُ ضَرُورِيّاً، بِمُوجِبِهِ سَأتنَازَلُ مِنْهَجِيّا وَلَوْ لِبَعْضِ الوَقْتِ عَنْ صِفَتِي الرّسمِيةِ كوزيرٍ للعَدْلِ، لِكَيْ أَختَبِرَ فَرَضِيّاتِي بِكُلِّ سَلاسَةٍ وَأرْيَحِيَّةٍ، وَأتَحَدّثُ انطِلاقاً مِنَ الصِّفَاتِ التِّي ستُعَمِّرُ معِي طَوِيلاً، بِاعْتِبَارِي مُناضِلاً سِياسِيا، نَاشِطاً حُقُوقِياً، وَمُثقَّفاً نَقْدِيّاً. هذا التَّمَوْقُعُ الوَاسِعُ والذِي يتَّسِعُ بِكُلِّ أَرْيَحِيَّةٍ لِلْجمِيعِ يبْقَى هُو الأَقْربُ إِلَى قَلبِي مِنْ كُلِّ الألْقَابِ الأُخْرَى، وَانْطِلاقاً مِنْهُ سأَبْسُطُ رُؤْيَتِي التِي أُكَافِحُ مِن أَجْلِهَا بِكُلِّ قَناعَةٍ وَاقتِنَاعٍ، وذلِكَ بِصَرْفِ النَّظَرِ عنْ مُحَاوَلاتِي الجَارِيَةِ لِتَنْزِيلِهَا في شِكْلِ مشَاريعَ قَوانِين.

كمَا أَنِّي لاعْتِباراتٍ مَنْهجِيَّةٍ، سَأَبسُطُ أَمامكُمُ خَمْسَ مُرافَعَاتٍ أساسية وهي:

 المُرافعة الأولى: الحريات الفردية مَصلحة للوطن ومنفعة للجَميع.§

 المرافعة الثانية: الحريات الفردية صيرورة مجتمعية مغربية.§

 المرافعة الثالثة: الحريات الفردية أساس الدولة الاجتماعية.§

 المرافعة الرابعة: الحريات الفردية وروح الدين الإسلامي. §

 المرافعة الخامسة: دلالات الحلال والحرام في الإسلام.§

المُرافَعَةُ الأُولَى

الحُرِّيَاتُ الفَردِيَّةُ مَصْلَحةُ لِلْوطَنِ وَمنْفعَةُ لِلْجَميعِ

يُخْطِئُ منْ يُدْرِجُ الحُرِّياتِ الفرْدِيَّةِ ضِمْنَ الكَمالِيَاتِ التِي يُمكِنُ تأجِيلُها إلى ما بَعْدَ كَسْبِ مَعارِكِ الدِّيمُقراطِيَّةِ، الحَدَاثَةِ، حُقُوقُ الإِنْسانِ، التَّنْمِيّةِ، والسلَام، أوْ يُمْكِنُنَا الاسْتِغْنَاءُ عنْهَا. وهَذا خَطَأٌ يَجِبُ تَصْويبُهُ، ذَلِكَ أنَّ الحُرِّياتِ الفَردِيَّةِ هِيَ الجَبْهَةُ الأسَاسِيّةُ لِمَعارِكِ التَّقدُّمِ كُلِّهَا:

أولاً، بِصدَدِ الدِّيمُقراطِيَّةِ: 

صَحيحٌ أنَّ الدِّيمُقراطِيَّة صِراعٌ سِلْمِيٌّ علَى السُّلْطَة بَيْنَ تَكتُّلاتٍ كُبْرى، إِلّا أنَّ المُواطِنَ هُو اللَّبِنَةُ الأَسَاسِيَّةُ في البِناءِ الدِّيمُقراطِيِّ. حيْثُ لا وُجُودَ لإِرَادةٍ عَامَّةٍ حُرَّةٍ بِدُونِ إِراداتٍ خاصَّةٍ حُرَّةٍ وَمُسْتَقِلَّةٍ كذلك. وهُو ما يُحِيلُ إِليْهِ سِتارُ مَعزِلِ الاقْتِرَاعِ، حيْثُ يَتِمُّ عَزْلُ الْفَرْدِ رَمْزِياً عنْ سَلطةِ الجماعَةِ التِي ينْتَمِي إِليهَا.

ثانياً، بِصَدَدِ الحَداثَةِ: 

صَحيحٌ أنَّ الحَداثَةَ مشْرُوعُ الدَّوْلَةِ، مَشْرُوعُ المُجْتمَعِ، وَمَشْروعُ الْحَضارَةِ الإنْسانِيَّةِ 

فيِ عالَمِ الْيَوْمِ، إلّا أنَّ مَبْدَأَهَا الأَسَاسِي أَنْ يَستعْمِلَ كُلُّ شخْصٍ عَقْلَهُ بِنَفْسِهِ، بِدُونِ وِصايَةٍ أوْ حِجْرٍ أوْ تَسلُّطٍ. عِلْماً بِأَنَّ التَّعَاقُدَ الاجتِماعِيِّ الذِي هُوَ أَساسُ الدَّوْلَةِ وَمُؤَسَّسات الدَّوْلَةِ الْحَدِيثَةِ لا يَتحقَّقُ إِلَّا بَيْنَ ذَوَاتٍ تَحْتَرِمُ استِقْلالِيَةَ بَعْضِهَا عن الْبَعْضِ.

ثالثاً، بِصَدَدِ حُقوقِ الإِنسانِ: 

يُؤَكِّدُ نَصُّ الإِعلاَنِ الْعَالَمِيِّ لِحُقُوقِ الإِنْسانِ علَى الطَّابَعِ الْفَرْدِيِّ لِلْحُقُوقِ، ولِذَلِكَ يتكَرَّرُ التَّعْبِيرُ الدَّالُّ علَى ذلِكَ الْمَوْقِفِ بِكُلِّ بَداهَةٍ وَوُضُوحٍ، “لِكُلِّ إِنْسانٍ الْحقَّ فِي..”، “لِكُلِّ فرْدٍ الْحَقَّ فِي..”، “لِكُلِّ شَخْصٍ الْحَقَّ في..”. ما يَعْنِي أنَّ الإِنسانَ بِاعْتِبارِهِ شخْصاً، ذَاتاً، فَرْدًا مُتَفَرِّدًا، هُو المَوْضُوعُ الأَساسِيِّ لِحُقُوقِ الإِنسانِ، بِدُونِهِ لاَ وُجُودَ لِأَيِّ حُقُوقٍ. 

رابعًا، بِصَدَدِ التَّنْمِيَةِ البشرِيَّةِ:

يَقُومُ أَساسُ التَّنمِيةِ على إِزاحَةِ كُلِّ الْعَوَائِقِ مِنْ أَمامِ اتِّجاهاتِ النُّمُوِّ الْعَقْلِيِّ وَالْوِجْدانِيِّ، تِلْكَ الاتِّجاهاتُ التِي تَخْتلِفُ بالضَّرُورَةِ مِنْ فَرْدٍ لآخَر، وهُوَ ما تُؤَكِّدُهُ ]كثِيرٌ مِنْ آياتِ الذِّكْرِ الحكِيمِ، مِنْ قَبِيلِ الآيةِ الكَريمَةِ، لِكُلٍّ] ]الإسراء 84[، وَكذلِكَ الآية، [كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ  ]البقرة 148[، كمَا يُؤكِّدُهُ الْحَديثُ[وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا النَّبَوِيُّ الشَّريف، »اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ«. لقَدْ خُلِقَ الإنسانُ لِكيْ يَنْمُو مِثْلمَا تَنْمُو سائِرُ الْكائِنَاتِ الْحَيَّةِ، غَيْرَ أنَّ الإِنسانَ يَنْمُو بِأُسلُوبٍ يخْتَلِفُ مِنْ شخْصٍ لآخَرَ. لِذلِكَ تَفْشَلُ كُلُّ مُحاوَلاَتِ تَنْمِيطِ نُمُوِّ الإِنسان. ولِذلِكَ أَيْضًا فإِنَّ مُؤَسَّسَاتِ التَّنْشِئَةِ الاجْتِماعِيَّةِ التِي تُلْغِي الْحُرِّيَةَ الْفردِيَّةَ مِن حِساباتِهَا عَادَةً ما تَشُلُّ الذَّكاءَ، وتُنْتِجُ أشخاصًا يَجْترُّونَ ما يَسْمعُونَ، بِدونِ أيِّ قُدْرَةٍ على الإِبْداعِ، بَلْ يَتَوَاكلُونَ فِي كُلِّ مُتَطلَّباتِ الْحياةِ، وبِالتَّالي يُمثِّلونَ خَطرًا على التَّنْمِيَةِ. 

خامسًا، بِصدَدِ السِّلْمِ الأَهْلِيِّ:

يَكْمُنُ مَنْبعُ الْفِتَنِ في نُزُوعِ الأفْرادِ إلى التَّدخُّلِ في الحياةِ الشَّخْصِيَّةِ لِبَعضهِمُ الْبَعْضَ. وَهُوَ نمَطُ التَّسَلُّطِ الذِي حاوَلَ الْبَعْضُ أنْ يُشَرْعِنَهُ بِدعْوَى “شَرْع الله”، إلّا أنَّ المغارِبَةَ بِنَباهَتِهِم فَطِنُوا إلى أنَّ الاسْمَ الْحقيقي هُوَ “شَرْعُ الْيَدِ”، ما يَعْني الْفَوْضَى والْفِتْنَةَ. تِلْكَ هِي الْحَقيقةُ المُرَّةُ التِي جَعلَتْ تاريخَنَا الإسْلامِيِّ لا يَخْلُو مِنْ فِتَنٍ كانتْ تَبْدُو أَحْيانًا “كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظلِمِ”، وِفْقَ تَنبُّؤَاتِ أحَدِ الأحاديثِ النَّبَوِيَّةِ.

الْمَرافعَةُ الثَّانِيَّة

الْحُرِّيات الْفرْدِيَّة سَيْرُورَةٌ مُجْتَمعِيَّةٌ مَغرِبِيَّةٌ

بِالرَّغْمِ مِن أنَّ مَفْهومَ الْحُرِّياتِ لهُ تاريخٌ تَداوُلِيٌّ مَحْدُودٌ وقَصيرُ الزَّمَنِ، إلَّا أنَّ ما يَعِيشُهُ المغْرِبُ مِنْ تَحوُّلاتٍ اجتماعِيّةٍ عَميقَةٍ يَجْعلُ المَوْضُوعَ ليْسَ مِنْ بابِ التَّرَفِ، بلْ يِتعَلَّقُ بالانْتِقَالِ الاجتِماعِيِّ الذِي يَشهده المغْرِبُ. وَهُنَا يُمْكِنُني الإشارَة إلى أهَمِّ التَّحوُّلاتِ:

-النُّمُوُّ المُتزايِدُ للمَجالاتِ الْحَضرِيَّةِ في مُقابِلِ المجالِ الْقَرَوِيِّ، فَحسَبَ عَدَدٍ مِنَ الإحصاءاتِ المحَلِّيَةِ والدَّولِيَّةِ، فَإنَّ نِسبَةَ المَجالِ الْحَضَريِّ تُقَارِبُ %70، وَمِنَ المَعْلُومِ أيضا أنَّ الْحَياةَ بِالمُدُنِ تُكرس نُزوع الأفراد إلى الاسْتِقْلالِيّة.

-انخِفاضُ نِسبَةِ الخُصوبَةِ بِالمغْرِبِ، فَبعْدَ أنْ كانَتْ سَنوَاتُ السِّتِينَاتِ مِنَ الْقَرْنِ الماضِي تُقارِبُ 7 %، فَقدْ صارت الْيَوْمَ في حدود 2 %، بلْ أَقَلَّ مِنْ ذلِكَ في المُدُنِ والْحَواضِرِ، وهُو ما يُعَزِّزُ دَوْرَ الْفرْدِ داخِل الأُسرَةِ.

-تَأخُّرُ سِنُّ الزَّوَاجِ بِالمغْرِبِ، بِحيْثُ أنَّ مُعدَّلَ سِنِّ الزَّواجِ يُقارِبُ 26 سَنَةً عِنْدَ الإناثِ و32 عندَ الرجالِ، وَبِغضِّ النَّظرِ عنِ الموْقِفِ الدِّينِي والأخْلاقِي، فَإِنَّ هذَا التَّأخُر يجعَلُ الشَّبابَ البالِغِينَ يَبْحثونَ عنْ استراتيجياتٍ فَرْدِيةٍ مُختلِفَةٍ وَبَدِيلَةٍ.

-التَّحَوُّلُ مِن مَفْهُومِ الأسْرَةِ التَّقْليدِيَةِ إلى أنواعٍ وأشكالٍ جَديدَةٍ، حيْثُ لم نَعُدْ أمامَ نمط واحد من الأسرة، وَإنَّمَا أنماط مُتعَدِّدَة: الأُسرَةُ الأبَوِيَّةُ التَّقْليديةُ، والأُسرةُ الأُمُومِيةُ المُكوَّنَةُ منْ أُمٍّ وأطفالِهَا، وأُسرَةُ الْقَرابَةِ المُكَوَّنَةِ مِن أبٍ وأُمٍ وأَطفالٍ وأَقارِبَ، والأُسرَةُ الأَبْنَائِيَةُ، وأُسرَةٌ بِلاَ أطفالٍ، وأُسرَةُ الأَقارِبِ بِلاَ زَوْجٍ أَوْ زَوْجةٍ، وغيرُهَا مِنْ أنواعِ الأُسَرِ التِي أَنْتَجَهَا المُجتَمَعُ الحَديثُ، 

-الإِقْلاعُ الثقافِيُّ الذِي عَرَفهُ المغربُ في الْعُقُودِ الأَخيرَةِ. حسبَ الأَرْقامِ التِي قَدَّمهَا الإِحصاءُ الْعامُّ للسُّكَانِ الذِي أُجْرِيَ سنةَ 2014، فبيْنَ عَاميْ 2004 و 2014 انخَفضَ مُعدَّلُ الأُمِّيَةِ بيْنَ النِّساءِ بِنِسْبةِ 12,6 %، مُقابِلَ انخِفاضِهَا عِنْدَ الرّجالِ بِنِسبةِ %8,6، وَتُفِيدُ التَّوقُّعاتُ بِأَنَّ نِسبَةَ الأُمِّيةِ لدَى الإِناثِ لنْ تتَجاوَزَ نِسبَةَ 8 %، كمَا أنَّهُ مِنَ المُلاحَظِ أنَّ الإِناثَ بينَ 15 و 19 سنةٍ هنَّ أَقَلَّ الْفِئاتِ عُرْضةً للأُمِّيَةِ في السَّنواتِ الأَخِيرةِ، خُصوصًا معَ ما سَبَقَ الْحَدِيثُ عنْهُ مِن انحِسارِ المَجالِ الْقَرَوِيِّ لِصالِحِ المَجالاتِ الْحضرِيَةِ، فَضْلًا عن جُهُودُ الدَّوْلةِ في مُحارَبةِ الأُمِّيَةِ والهَدْرِ المَدْرَسِي، وهُوَ ما يُنْتِجُ في الأَخِيرِ مُجتَمعًا يَسُودُهُ الْفَرْدُ الْحضرِي المُتعلِّمُ ذَكرًا كانَ أوْ أُنثَى، مِمَّا يُكرِّسُ مَزيدًا مِنَ الْخُروجِ عنْ دائِرَةِ الْجماعَةِ في شَكْلِهَا الأُسَرِيِّ أوْ المُجْتَمَعِيّ.

كُلُّ هذِهِ التَّحوُّلاتِ التِي عَرَفَهَا المَغرِبُ أدَّتْ إلى نُمُوِّ ثَقافَةِ الْحُرِّيَةِ، وأَحدَثتْ اسْتِعدَادًا سُوسْيُولُوجِيًا وَفِكْريًا لاسْتِيعابِ مَفاهيمَ الْحُرِّيَةِ والاستقلاليَةِ، ولا يَسعُنَا بالتّالي إلّا العمل على إعادةِ قِراءَةِ الدِّينِ والْقِيَمِ بِمَا يَتوافَقُ معَ تِلكَ المُتَغيِّرَاتِ والتَّحوُّلاتِ، دُونَ أيّ مُصادَمَةٍ مزعومة بين الحُقوق الكونية والثَّوَابِتِ المحلية.

الْمُرافعَةُ الثَّالثَة

الْحُرِّياتُ الْفَردِيةُ أَساسُ الدَّولَةِ الاجتماعِيَةِ

المُلاحَظُ أيضًا أنَّ المغْرِبَ شَهِدَ إِصْلاحاتٍ قَانونيَةٍ هامَةٍ سَواءٌ لِتحْديثِ الْعَلاقاتِ المِهَنِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ، أو محاولة تَخْليقِ الْحياةِ الْعامَّةِ والْقضاءِ علَى الْفسادِ المَالِي والإِدارِي، إِلاَّ أنَّ وَرْشَ إِصلاحِ الْقانُونِ الْجِنائِيِّ بَقِيَ مُؤجَّلاً، وَبقِيَت الْحياةُ الْعَامَّةُ للمَغارِبَةِ تحْتَ قَانونٍ جِنائِيٍّ مُتَقادِمٍ وُمُسِيءٍ لمُجْمَلِ المُكتَسَباتِ الدِّيمُقراطِيَةِ وَالْحَداثِيَةِ التِي حَقَّقَهَا الشَّعبُ المغْرِبِي بِإرَادَةٍ مَلكِيَةٍ وحماسٍ وَطَنِيٍّ.

إِنَّ انْخِراطَ المَغْرِبِ بِإرادَةٍ قَوِيَةٍ في بِناءِ الدَّوْلةِ الاجتِماعِيَةِ باعْتِبارِهَا مُحَاوَلَةً لِضَمانِ الْحَدِّ الأدْنَى مِنَ الْحياةِ الْكَريمَةِ للمُواطِنِين( )، يُعدُّ دَعوَةً قَوِيةً لإِصلاحِ الْقانُونِ الْجِنَائِيِّ المَغرِبِي بِمُنْطَلَقِ الدِّفاعِ عنِ الْحُرِّياتِ الْفَردِيَةِ، ذَلِكَ أنَّ كُلَّ التَّشْرِيعاتِ الْحَديثَةِ التِي انصَبَّتْ علَى تَطوِيرِ الْحُقُوقِ الاجتِماعِيَةِ تَتَضمَّنُ مَبْدَأَ التَّضامُنِ بيْنَ الأفْرادِ المُستَقلِّينَ.

فَالفَرْدُ وهُوَ يُنتِجُ (المُقاوَلَةَ) يُساهِمُ وَيَتضامَنُ (الضَّرِيبَةَ)، يَتحوَّلُ إلى فَاعِلٍ لَهُ حُقُوقٌ وَعليْهِ مَسْؤُولِياتٍ، وَبِالتَّالي علَى الْقَانونِ أنْ يَحمِيهِ مِنْ كُلِّ أَشْكالِ الْوِصايَةِ التَّقْليدِيَةِ.

لقَدْ سَعتِ الدَّولَةُ الاجتماعِيَةُ إلى تحريرِ الْفَردِ مِن سُلطةِ الْحاجَةِ والْعَوَزِ التي تَسجِنُهُ

 في شَرْطِهِ البيُولُوجِي (غذاءٌ، سكنٌ، أمنٌ..) والنهوض به إلى مستوى الْفَردِ الْفَاعِلِ القادِرِ على عَيْشِ تَجرِبَتِهِ الْخاصَّةِ بِالعَلاقَةِ معَ الْجَماعَةِ. فَبِسعي الدَّوْلَةِ الاجتماعِيَةِ إلى الْحدِّ مِن الْفقْرِ، ومُحارَبَةِ الْبِطالَةِ، وتوْفِيرِ شُروطٍ صِحِّيَةٍ وتعلِيمِيَةٍ للأَفْرادِ، فَإنَّها تَفتَحُ أمامَ المُواطِنينَ مَجالَ الْحُقوقِ الثَّقافِيَةِ التي لا تَعْنِي فَقَط حِمايَةَ التَّعدُّدِ والتنوع في السُّلوكات الاجتِماعِيةِ، بل تَفرِضُ الاعتِرافَ بِأَنَّ كُلَ شخصٍ يَسْتطِيعُ أنْ يُشَيِّدَ ظُرُوفَ حَياتِهِ، وَيُساهِمَ في تَحْسينِ جَوْدةِ الْحياةِ الاجتِماعِيَةِ، وِفْقَ الطَّريقَةِ التِي تَجمَعُ بيْنَ المَبادِئِ الْعَامَّةِ للتَّحْدِيثِ و “الْهُوِيَاتِ الْخَاصَّةِ” ( ).

بِهَذا المَعْنى فَإِنَّ أَهميَّةَ الدَّولةِ الاجتماعِيَةِ التِي يُدَشِّنُها المغرِبُ الْيَوْمَ، تَكْمُنُ

 في سَنِّ سِياسةٍ تَمنَحُ الإمْكانِيَاتِ الضَّرُورِيَة لِتُصبِحَ للفَردِ حُرِّيَةٌ تُقَوِّي لدَيْهِ المُواطَنَةَ النَّشِطّةَ. فإِشْباعُ ضَرُورِياتِ الْعَيْشِ الْعصرِي هُو المَدْخلُ الذِي يُمَكِّنُ المُواطِنَ المَغرِبِي مِن أنْ يَعيشَ استِقلاَلِيتَهُ كإبْدَاعٍ مُتَجدِّدٍ في عَلاقَتِهِ معَ المُجتَمَعِ.

إنَّ تَوْسِيعَ الْحُرياتِ الْفرْدِيَةِ في مَشرُوعِ إِصلاحِ الْقانونِ الْجِنائِي المغْرِبِي هُو انسِجامٌ أوّلاً معَ التداعِياتِ الاجتِماعِيَةِ التِي تَخْلُقُها السِّياسَةُ الاجتِماعِيَةُ التي بَاشرَتْهَا الْحُكومَةُ المغربيةُ مُنْذُ اعتِلائِها الْقَرارَ الْحُكومِي بِالبِلادِ. وهُو انسِجامٌ ثَانيًا معَ المَعِيش الوَاقِعِي لأَدْوارِ الْفَردِ المغْرِبِي داخِلَ الْحياةِ الْعامَّة للمُجتَمَعِ المغْرِبِي.

فالفردُ المغربيُّ هو فاعلٌ في المواطنة النشطة عندما يساهم في خلق الثروة الوطنية وتنمية فائض القيمة، ويؤدي الضريبة سواء المباشرة أو غير المباشرة، ويساهم في خلق فرص الشغل، ويتطوع في العمل الجمعوي لخدمة الآخرين ويتحمس في الدفاع عن انتمائه 

الوطني، ويُبدع ويُجدد في الثقافة المغربية ويعتز بتراثه المادي واللّامادي ….

كل هذه المظاهرُ الحضارية لفعل المواطنة النشطة الذي يتبناه الفرد المغربي تفرض على كل إصلاح للقانون الجنائي المغربي أن يُعلي من شأن الحريات الفردية ويُكرم المواطن المغربي فعليا في مستوى الحريات والحقوق والمسؤوليات.

 والواقع، ليست المجتمعات الغربية الحديثة هي أول من دافع عن الحريات الفردية. إذ أن هذه الأخيرة ليست من إبداع البلاد الغربية كما يدعي الكثيرون. لقد بين فوكو( )،أن ظاهرة الحريات الفردية كانت حاضرة عند المجتمعات القديمة من خلال ثلاثة مبادئ أساسية : الأول هو إظهار المميزات الفردية التي تعطي قيمة للفرد ،المبدأ الثاني هو تثمين الحياة الخاصة كمقابل للحياة العامة، المبدأ الثالث والأخير هو أنها مجتمعات كانت تعطي القيمة لعلاقة الفرد بذاته واتخاذها كموضوع للمعرفة و التغيير.

 الإسلامُ هو الديانة التي مجَّدت وصانت الحريات الفردية. فلا توجد في الدين الإسلامي مؤسسة تتوسط بين الله عز وجل والإنسان المؤمن، هذا الأخير له الحرية وفق تجربته وظروفه وخصائصه في عيش إيمانه ومعتقداته بمرجعية القرآن الكريم والحديث النبوي الطاهر.

صحيحٌ أن هذا لم يمنع من ظهور زعاماتٍ تدَّعي احتكار الفهم الصحيح للدّين وتعمل على فرض سلطتها على المؤمنين لكن ذلك يعد ظاهرة سياسية وليست انبثاقا من أي نزعة أرثدوكسية مزعومة في الإسلام. 

غياب مؤسّسة تتوسط بين الله تعالى وحياة الإنسان المؤمن هو في العُمق تكريسٌ لمبدأ الحرية الفردية الذي جاء به الدين الإسلامي. وهو ما تُرجم في أشكال عديدة للحرية الفردية التي يُقرها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. فمن الحق في الحياة الخاصة إلى الحق في الأمن والسلامة الجسدية إلى حرية التنقل والفكر والرأي وحرية العقيدة.

فحُرمة ولا تَجَسّسوا ولا]الحياة الخاصة للفرد تمثلت في تحريم الإسلام للتّجسس   (سورة الحجرات). كما تمثلت في تنصيصه على حُرمة[يَغْتَبْ بعضُكم بعضًا  وليسَ البرُّ أن تُوَلُّوا] [البقرة :189 ]المسكن في قوله تعالى في سورة  [البُيُوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتُوا البُيُوتَ مِن أبْوَابها  . 

والإسلام دين عَمل على إحداث نقلة نوعية في الحضارة الإنسانية، اذْ حرّر عقلَ ولا تَقْفُ]الإنسان من الخرافات والأوهام والظنون الباطلة، ففي قوله تعالى إنَّ الظنَّ لا] (الإسراء :36)، وقوله كذلك [مَا ليسَ لكَ به عِلْمٌ   (سورة يونس 36). و ذلك للتَّأكيد على مكانة[يُغْني مِنَ الحَقِّ شَيئًا العقل العالية في الدين الإسلامي. 

وتعظيمُ وفي الأرض]العقل في الإسلام يتجلى أيضًا في إقرار حرية الفكر و الرأي   (سورة الداريات :20-21). بل[آياتٌ للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تُبصرُون  لقد جعل إعمال العقل من الواجبات الشرعية لأن كل الواجبات الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتهاد، والتكافل، والشورى، والنصيحة، لا تتم إلا بإعمال العقل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وعن ولقد]تكريم الإسلام للإنسان قوله تعالى في سورة الإسراء الآية 70 كَرَّمْنا بَنِي آدمَ وحملناهُم في البرِّ والبحرِ ورَزقناهم من الطيِّبات  . ومن أشهر المقولات التي[وفضَّلْناهم على كثيرٍ ممّا خَلَقْنا تفضيلًا  انتشرت في أوساط دعاة الحرية في كل بقاع العالم نجد مقولة عمر بن الخطاب التي وجّهها إلى واليه على مصر عمر بن العاص والتي تقول ” مَتى استعْبَدْتُم النّاس وقد وَلَدَتْهم أمّهاتهم أحرارًا ”.

ولقد كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نموذجية في التسامح ليس فقط مع أهله وأصحابه، بل كذلك مع خصومه من أهل الكتاب والمشركين، وأفضل مثال على هذا التسامح عفو الكريم وصفحه الجميل اتجاه من حاربوه وهو يفتح مكة المكرمة إذ خاطبهم ”اذهبُوا فأنتُم الطُّلَقَاءُ”. ومن أَسْمَى تعابير التسامح عند الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله ” إني لمْ أُبْعَث لَعّانًا، وإنّما بُعِثْتُ رحمة ” كجواب لمن قال له: يا رسول الله أُدْعُ على المشركين.

وتبقى العبارة التي تُلخص بعمق ثقافة الحرية وحقوق الإنسان في الإسلام هي تلك ومَا أرْسَلْنَاك إلّا]التي خاطب بها عزَّ وجلَّ نبيه المصطفى قائلا  سورة الأنبياء الآية 107. [رَحْمةً للعالَمين

يتضح جليا أن الدفاع عن الحريات الفردية في مشروع القانون الجنائي، ليس من باب تقليد نمط حياة الفردانية، أو مجرَّدَ تأثّر سطحي بثقافة الآخر ، بل هو دفاعٌ عن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه، وامتدادٌ نوعيٌّ وحضاريٌّ لتاريخ أمتنا الإسلامية.

الدفاع عن الحريات الفردية اليوم في إطار مشروع إصلاح القانون الجنائي المغربي ليس تَرفا فكريا ولا هو قضيةَ نخبة “تتعالم” بها على مجتمعها. بل هو من صميم الدفاع عن التنمية الشاملة والمستدامة لمجتمعنا التَّواق للتَّقدم والازدهار.

كلُّ أوراش الإصلاح المُنجزة أو الّتي في طريقها للإنجاز، هي أوراش إصلاحية لتحقيق التَّقدم الاجتماعي، بمعنى أن المغاربة لا يريدون تنمية تُختزل في النِّسَب والأرقام والإحصائيات والبيانات الشكلية، بل ينشدون التقدم الاجتماعي الذي هو عنوان الرُّقي الحضاري.

التنميةُ في سياق تحديات القرن 21 لم تَعُد تعتمد فقط على مؤشرات PIB (المنتوج الداخلي الخام)، بل امتدت لتقاس بمؤشرات IPS أي “مؤشر التقدم الاجتماعي”. لذلك فإن تحسينَ وضع الحريات الفردية في مشروع القانون الجنائي المغربي يُعَدُّ ضرورةً تنمويةً تتجاوز السِّجالاتِ الفئوية هنا وهناك.

فلم تَعُد التنمية مجرّد تراكم لرُؤوس الأموال، وتدبير للخيرات والخدمات، بل أصبحت لها غاية أساسية هي جعل المواطن قادر اً على إبداع حياة مأمولة ومقبولة تستجيب لطموحاته.

لقد بيّن أَمَارْتِيَا سِينْ،Sen Amartya الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998، أن التنمية الفعَّالة هي التي تقوي بشكل متوازي الحريات الفردية والحريات الجماعية( ). لذلك فإنّ مبدَأ العدالة الذي يَحرصُ على حق الوُصولِ إلى الموارد لكل فئات المجتمع، ويَحرص على الحُقوق والحُريات…يُعَدُّ مبدأً اقتصاديًّا(1).

لقد استلهم برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD مُجمل أعمال أَمَارْتِيَا سِينْ للدفاع عن سياسات تنشغل بالأساس بـ”التنميّة البشرية ” التي تُمَكِّنُ الدول، وخاصة الدول النامية، من تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.

لقد انخرط المغربُ بجدية في كل برامج الأمم المتحدة للتنمية ( ). وإذا كان قد حقَّق خطواتٍ مُهِمّةٍ على دَرْبِ التنمية، فأنه في حاجة اليوم إلى تعميق كلِّ مكتسباته التي أصبحت واقعًا معيشيًّا، ويمضي في إِقرار متقدم للحريات الفردية بما ينسجم مع التحوّلات الاجتماعية والثقافية داخل سِياق المجتمع المغربي. 

المرافعة الرابعة

الحريات الفردية وروح الدين الإسلامي

يُمكنني على سبيل استفتاح هذه المرافعةِ الرّابعةِ، التذكير بجملة من القواعد العامة، “أينما يكون العدلُ فثمّ شرعُ الله”، أو قاعدة “حيثما تكون المصلحةُ فثمّ شرعُ الله”، أو ما إلى ذلك من قواعد فقهية تقدمية. كما يمكنني التذكير أيضًا بأحاديث نبويّة كثيرة من قبيل قول الرسول الأمين، “أنتم أعلم بأمر دُنياكم”، وما إلى ذلك من أقوال وأدلّة شرعية تؤكد بأن سنّة الله في الأرض هي مبادئ وتوجهات عامة تتركُ متسعًا للاجتهاد التشريعي البشري تبعًا لِتَقَلُّبِ المصالح، تبعًا لنُمُوِّ حاجيات المجتمع، وتبعًا لتطور مستويات المعرفة والوعي والثقافة. هُنا بالذّات يكمن جوهر الإسلام.

إنّ تحريض الناس على التدخل في الحريات الشخصية لبعضهم البعض لا يعني مُجرّد انتهاك للكرامة الإنسانية، حيث يتمّ التعامل مع الناس باعتبارهم قاصرين يحتاجون إلى الحِجر والوصاية، بل إنه انتهاك لأحد حقوق الله، الحقّ في الثواب والعقاب، لا سيما بخصوص القناعات الشخصية. وقد قيل لصوفي ذات مرّة: إنّ رجلًا يشتُم الله ويجبُ علينا أن نقتلَه. فردّ عليهم بكل هدوء: إذا أدْرَكْتُم بأنّه لا يُحبُّ اللهَ فمن أدراكُم بأنّ الله لا يُحبّه؟! 

لقد أجمع المسلمون في سياق التديُّن الشعبي والفطري، على ضرورة إِرْجَاءِ أحكام الله للآخرة، وتركها لله حصرًا، تماشيًّا مع منطوق الخطاب القرآني [الله يَحْكُمُ بينكم يوم القيامة فيما كُنتم فيه تَخْتلفُون]الذي يقول،  ثمّ إليَّ مَرجعُكم]]الحج 69[، كما يقول في موضعٍ آخر من كتابه العزيز  ]آل عمران 55 [. بهذا المعنى[فأحْكُمُ بينكم فيما كُنْتُم فيه تَختلفون الربّاني تكون التعدُّدية الدينية قدَرًا دنيويا لا رَادّ لَهُ، وبالتالي فإنّ التعددية الدنيوية تتبع القدر نفسه. 

يقوم المبدأُ الأساسيُّ للعدالة الإلهيّة على أساس أنّ الله تعالى لا يأخذُ أحدًا بجريرةِ أحدٍ، وحاشا الله أن يفعل ذلك، وهو القائل في كتابه المُبين: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وعليها ما]  ]البقرة 286[ ، وهو القائل أيضا عدّة مرات في محكم الكتاب،[اكْتَسَبَتْ  ]الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18،[لا تزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى] الزمر 7. [ 

لا سُلطانَ لعاقلٍ على عاقل، ولا وصاية لخطّاء على خطّاء، ولا نَنْسَ في النهاية حكمة النبي عيسى بن مريم، والتي استوعبتها بعض كتب التراث الديني الإسلامي، بكل أرْيَحِيَّة، فبعد أن طلب منه بعض الناس مشاركتهم لأجل رَجم إحدى النساء، قال لهم قولته الشهيرة: “مَنْ كانَ مِنْكُم بِلا خطيئةٍ فلْيرمها بحَجرٍ”. فماذا كانت النتيجة؟ الجميعُ توقّف، الجميعُ تراجع، الجميعُ استحيى من نفسه.

“من كان مِنْكم بلا خَطيئة فَلْيرمها بِحَجَرٍ”، يمكننا أن نقولها حين يتعلق الأمر بتجريم أفعالٍ يمكننا أن نصفها كما نشاء، أخطاء، نزوات، ذنوب، خطايا، أو كما نشاء، غير أنها لا تخرج عن حرمة الحياة الشخصية للإنسان، وذلك وِفق الشرط البشري نفسه، ووفق الطبيعة البشرية نفسها.

“مَنْ كان مِنْكُم بِلا خطيئةٍ فليرمها بحجرٍ”، فلا يَسْتَحي بأن يُطالب كما يشاء بالإبقاء على عقوبات تُخرب البيوت وتُدمر النفوس، على أفعال، مهما قُلنا عنها أو حكمنا عليها، فإنها لا تُسبب الأذى لأي أحد.

المجتمع الذي نصبو إليه انطلاقًا من هويتنا الرُّوحية المغربية، وكذلك بالحس السليم والفطرة السليمة، هو مجتمع يُدركُ فيه الجميع بأنّ الجميع راشدٌ، وبحيثُ لا أحدَ يُنَصِّبُ نفسه وصيًّا على أحد، ولا أحد يحقُّ له أن يتسلّط على خصوصيات أحد، باسم أي كان. 

كلُّنا مسلمون، كلنا مسلمون إلى الله، وذلك بصرف النظر عن قناعاتنا الشخصية. كلنا نرجئ أحكام الله لله وحده، ونحترم خياراتِ بعضِنا البعض في هذه الحياة الزائلة، ونُرجئ الحُكم الدينيَّ الأخرويَّ للآخرة، احتراما لكرامة الإنسان، وامتثالًا لروح الإسلام، واستجابةً للخطاب القرآني الذي يُؤكد في عديد من آياته البينات بأن الحُكم لله وحده، على منوال التنبيه الإلهي الذي الأنعام 57، يوسف 40،[إنِ الحُكْمُ إلّا لله ]تكرر في عديد من الآيات،   ]غافر 12[ ؛ فضلًا عن آياتٍ أخرى كثيرةٌ[فالحُكْمُ لله]يوسف 67[؛ والآية  ورد فيها الأمرُ بصيغة (لَهُ الحُكم). هنا يكمن المعنى الحقيقيّ لمبدأ “الحاكمية الإلهية” بعيدًا كلَّ البُعد عن كل النزعات التسلُّطية التي حاولَتْ أن تستثمِرَه للتّحَكُّم في العقول والنفوس.

معنى ذلك كله بالحس الديني السليم أن تنميط سلوك الناس على نمطٍ واحد هو من جهة كلٌّ يَعْمَلُ على]أولى بمثابة إنكارٌ للحكمة الإلهية التي قرّرت أن يكون  [لكُلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُوَلِّيها] ]الإسراء 84[، وأن يكون [شَاكِلَتِه  ]الأنعام[لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]]البقرة 148[ ، وبعد ذلك فـ 164، الإسراء 15، فاطر 18، الزمر 7[؛ ومن جهة ثانيّة هو بمثابة إنكار للحاكمية الإلهية التي قرّرت أن يكون الحكم على الناس في مسائل الاعتقاد لله الأمْرُ مِنْ]والإيمان لله الواحدِ الأحدِ، لا شريكَ لهُ في الحُكم، و  ]الروم 4[. صدق الله العظيم.[قَبْلُ ومِنْ بعدُ

المرافعة الخامسة

دلالات الحلال والحرام في الإسلام

حينما نسعى لإجراء أي إصلاح أو أي تجديد في مجال منظومة الحقوق والحريات في بُعدها الفردي والجماعي، فإنّما نسعى لتحقيق ذلك في إطار من الاحترام التام والتوفيق بين مختلف الثوابت الدستورية للمملكة، وكذا بين مختلف المرجعيات المجتمعية. وفي حالة الاختلاف نحتكم إلى مؤسسة إمارة المؤمنين، تحقيقًا لمقاصد الدين الكُلِّية واستلهامًا لروحه في الحرية والكرامة والعدل والمساواة بين الناس. 

ذلك أن جلالة الملك باعتباره أميرًا للمؤمنين هو الكافل لحقوق المواطنات والمواطنين والضامن لحرياتهم بمقتضى الدّستور، في إطار من الالتزام بثوابت الدين وكلياته ومنظومة قيمه الكونية. وهو ما يُفسر تشبّث ملوك المغرب إلى اليوم بمبدأ الشرعية، وتشديدهم على أنهم لا يُحلّون حرامًا ولا يُحرمون حلالا . وهو ما سبق أن عبّر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة عام 2003 بالقول: “لا يمكنني بصفتي أميرًا للمؤمنين أن أحلَّ ما حرَّم الله وأُحَرِّم ما أحلّه”.

غير أن التزام وليّ الأمر بمبدأ الشرعية في سياق نهوضه بواجب التحكيم، لم يأت ليغل يده بقدر ما أتى للإفساح له في عملية الاجتهاد. وفي هذا السياق يحضرني ما سبق أن استخلصه المؤرخ والمفكر عبد الله العروي في أطروحته التأسيسية حول “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية..” من أن “السلطان إمام، وتفرض عليه وظيفته إقرار وضمان سموّ الأحكام الشرعية. وهو من موقعه هذا أعلى سلطة فقهية وقضائية في البلاد، يبثّ ويفصل في القضايا المستعصية..” .

ومصداق ذلك، أن التزام الملك بمبدأ الشرعية في الخطاب سالف الذكر جاء مرتبطا ومشروطا بحرص جلالته على أن يتمَّ ذلك “في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنيّة”. 

ومعلوم أن نظرية المقاصد شكَّلت الإطار النظري والمنهجي الذي أسْعَف العقل الإسلامي المستنير في النهوض بأهم عملية تجديدية شهدها الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر منذ محمد عبده مرورًا بالطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وغيرهم. وبالتالي فورودها في الخطاب الملكي يؤكد أن الالتزام بمبدأ الشرعية (لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحله) لا يتم على وجهه الشرعي الأمثل إلّا من خلال الالتزام بعملية الاجتهاد والتجديد وفق رؤية مقاصدية، انطلاقا من مقاربة تشاورية قائمة على الحوار وإشراك جميع القوى والهيئات المعنية، في إطار من الاعتدال والاجتهاد المنفتح.

ومعلوم أنه بحلول القرن السابع عشر لم يكن من المستغرب في الإمبراطورية العثمانية بالنسبة للمذهب الفقهي الرسمي -المذهب الحنفي- أن يورد المراسيم السلطانية في كتبه الشرعية. وفي إطار هذا النوع من الاعتراف باختصاص الدولة بالسلطة القانونية، تَكْمُن سلطة التّقييد الإداري، أي عدم تحريم الشيء عند الله، لكنه يغدو غير شرعي بالنسبة إلى الدولة. وهو ما يعرف بـ”تقييد المباح” حيث تَوَسَّعَ العملُ به في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومَرَدُّ ذلك إلى القضايا المثيرة للجدل مثل الرق وتعدد الزوجات حيث أكد محمد بَيْرَم الخامس وبعده محمد عبده وبعدهما الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي إلى حق الحاكم في تقييد المباح كأداة أساسية لإلغاء الرق وتعليق ووقف العمل بالعديد من الأحكام الشرعية القطعية لانتفاء شروط تطبيقها؛ بحيث سوف يترتب على الالتزام الحرفي بها نقيض المقاصد والآثار التي استهدفها الشارع الحكيم منها. ومعلوم أن التراث الفقهي الإسلامي غنيٌّ بالحالات التي تم فيها مثل هذا التعليق. 

وبالتالي فإن مبدأ الشرعية المتمثل في قول جلالة الملك: “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحلّ ما حرم الله وأحرم ما أحلّه” يؤكد صلاحياته الدستورية كسلطة تحكيمية شرعية عليا تدرأ الخلاف بين مكونات الأمة. والتحكيم لا يكون بداهة إلّا بالتوفيق والتشاور والاجتهاد سعيا لما فيه المصلحة: أينما كانت المصلحة فتم شرع الله، أينما كان العدل فتم شرع الله..

لذلك كله فالمطلوب من الحقل الديني مواصلة التجديد بالمعنى الحقيقي للكلمة، والاجتهاد بكل معانيه، إخلاصا لروح الإسلام، وخدمة لمصلحة الوطن. 

*  النص الكامل لمداخلة وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، خلال استضافته من طرف “مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى