قراءة متأنية في الخطاب الملكي السامي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء

شكل الخطاب الملكي السامي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء لهذه السنة محطة تاريخية في مسار المغرب الحديث، ونقطة فارقة مع مايروج في المحيط الإقليمي والقاري من خطابات بعيدة عن تطلعات شعوب المنطقة لماتضمنه الخطاب من حمولة سياسية وتنموية بصفة عامة تحدد، بوضوح، المعالم الكبرى للمخطط الاستراتيجي الذي خططه جلالته للمغرب مابعد الكركرات.

لايمكن فهم جوهر الخطاب الملكي السامي ليوم 06 نونبر 2023 بمعزل عن تفاصيل الأحداث التي تعرفها افريقيا وعلى الخصوص المنطقة المغاربية ودول الساحل، كما لايمكن قراءة الخطاب بدون الرجوع إلى الخطب الملكية السامية للسنوات الأخيرة وخاصة الخطب الملكية السامية بمناسبة أعياد المسيرة الخضراء منذ سنة 2020، حيث لانجد بينها أي تعارض بل تكمل بعضها البعض إلى أن نصل إلى الخطاب الملكي لهذه السنة الذي أكمل الصورة واضحة للمخطط الاستراتيجي المغربي، ولسان حاله يقول: “اليوم أوضحت لكم مشروعنا الأطلسي الكبير. فحيى على العمل”؟

كان الشعب المغربي والأصدقاء كما الخصوم يترقبون الخطاب الملكي السامي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، وكانت جل الانتظارات تشرئب إلى الكيفية التي سيتناول بها جلالة الملك الأحداث الإرهابية التي عرفتها بعض النقط في التراب المغربي، والاعتداء الذي يطال قطاع غزة الفلسطيني، فجاء الخطاب من نبل النبلاء معاكسا لخطاب قطاع الطرق (الجزائر والبوليساريو) حيث ترفع عن تناول الوضع بالشكل الذي ينتظره خصوم وحدتنا الترابية، وجاء الخطاب صانعا للحياة والأمل ورفاهية للشعوب عكس قطع الرقاب والأرزاق والأرحام الذي تنهجه الآلة الهمجية الجزائرية.

وبما أن عقلية النبلاء لاتركز على سفاسف الأمور والخوض في المستنقع، فإن صورة النسر والغراب تجسدت في الخطاب الملكي السامي لهذه السنة، باعتبار أن الغراب يتجرأ على الوقوف على ظهر النسر ليقتات من خيرات كتف النسر ظانا بأنه تساوى مع النسر أو تغلب عليه، لكن النسر لايريد مجاراة الغراب في قفزته، ولايلتفت إليه، بل يحلق عاليا في السماء في طبقات لايستطيع فيها الغراب التنفس، فيسقط إلى أدنى الدرجات لعله ينقد حياته وينفذ بجلده مدركا أنه غير قادر على مجاراة العظماء الكبار في علوهم وسموهم.

وبذلك فجلالة الملك محمد السادس لم يذكر الجزائر ولا المرتزقة، ولم يرى فيهم ما يستحق الذكر، وركز على العمل ومايفيد المغرب وشركائه في الساحل وافريقيا والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا وأمريكا.

لم يفوت جلالته الفرصة دون أن يعرف بمعنى “المسيرة” في خطابه السامي لهذه السنة وانعكاساتها الإيجابية على البلاد حيث قال جلالته:

“لقد مكنت المسيرة الخضراء، التي نحتفل اليوم بذكراها العزيزة، من استكمال الوحدة الترابية للبلاد.

ووفاء لقسمها الخالد، نواصل مسيرات التنمية والتحديث والبناء، من أجل تكريم المواطن المغربي، وحسن استثمار المؤهلات التي تزخر بها بلادنا، وخاصة بالصحراء المغربية.”

وفي الخطاب السامي الذي ألقاه جلالته في سنة 2022، أوضح جلالته مغزى المسيرة ومفهومها الحقيقي حيث قال جلالته:

“فالمسيرة الخضراء ليست مجرد حدث وطني بارز، في مسار استكمال وحدتنا الترابية. إنها مسيرة متجددة ومتواصلة، بالعمل على ترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، وجعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري”.

من هنا يبين جلالته أن المغرب يركز على العمل والاستمرار فيه، ويصنع الحياة والأمل، وغير منكمش على نفسه بل منفتح ومتفاعل مع محيطه الإقليمي والقاري، وما يأتي بعدهما، وهذا ما سنقف عنده في كل خطبه وخاصة منذ 2020 التي نحن بصدد التعاطي معها.

أوضح جلالة الملك في خطابه السامي ليوم 06 نونبر الجاري أن تعبئة الدبلوماسية الوطنية “مكنت من تقوية موقف المغرب، وتزايد الدعم الدولي لوحدته الترابية، والتصدي لمناورات الخصوم، المكشوفين والخفيين”، وهي أول مرة يستعمل فيها عاهلنا المفدى مصطلح “المكشوفين والخفيين” بعدما كان جلالته يدعو في خطبه السابقة إلى الجرأة أكثر والوضوح في المواقف كما جاء في خطابه السامي لسنة 2021 حيث قال جلالته: “ومن حقنا اليوم ، أن ننتظر من شركائنا ، مواقف أكثر جرأة ووضوحا، بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة.

وهي مواقف ستساهم في دعم المسار السياسي ، ودعم الجهود المبذولة ، من أجل الوصول إلى حل نهائي قابل للتطبيق.”

ورفعا لأي لبس أكد جلالته أن “المغرب لا يتفاوض على صحرائه. ومغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا مطروحة فوق طاولة المفاوضات، وإنما نتفاوض من أجل إيجاد حل سلمي، لهذا النزاع الإقليمي المفتعل.

وعلى هذا الأساس، نؤكد تمسك المغرب بالمسار السياسي الأممي. كما نجدد التزامنا بالخيار السلمي، وبوقف إطلاق النار، ومواصلة التنسيق والتعاون، مع بعثة المينورسو، في نطاق اختصاصاتها المحددة…..

كما نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة، بأن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية”.

والرد الذي كان ينتظره خصوم وحدتنا الترابية والعديد من المهتمين، فقد سبق لعاهل البلاد أن أكد في خطابه لسنة 2020 أن المغرب “سيظل ثابتا في مواقفه. ولن تؤثر عليه الاستفزازات العقيمة، والمناورات اليائسة، التي تقوم بها الأطراف الأخرى، والتي تعد مجرد هروب إلى الأمام، بعد سقوط أطروحاتها المتجاوزة”.

وللمزيد من التأكيد في العملية السياسية، ودحضا لإدعاءات مرتزقة البوليساريو وصانعيهم  الخاصة بـ “تمثيلهم” الخيالي لسكان أقاليمنا الجنوبية والذين يسمونهم مغالطة بـ”الشعب الصحراوي”، أوضح جلالته بما لايدع مجالا للشك أن “المجالس المنتخبة، بأقاليم وجهات الصحراء، بطريقة ديمقراطية، وبكل حرية ومسؤولية، هي الممثل الشرعي الحقيقي لسكان المنطقة”، عكس الذين قفزوا على قيادة البوليساريو واختطفوا المواطنين واحتجزوهم بطشا بقوة السلاح وصادروا ممتلكاتهم  في مخيمات الدل والعار في تراب يقع تحت نفوذ النظام الجزائر بتواطئ مكشوف مع فرنسا. أما في أقاليمنا الجنوبية، فقد أجريت انتخابات حرة نزيهة، كسائر التراب الوطني، وعرفت أقاليمنا الجنوبية تنافسا مشهودا بين برامج المرشحين، وشهدت العملية الانتخابية فيها نسبة مرتفعة في المشاركة التي أفرزت صناديق الاقتراع بها ممثلي الساكنة في المؤسسات المنتخبة المحلية والاقليمية والجهوية ومجلس النواب بغرفتيه. وقد اعترفت بهم الأمم المتحدة ممثلين لسكان المنطقة، ودعتهم لحضور المائدتين المستديرتين حول الصحراء في دجنبر 2018 ومارس 2019 حيث حضر عن الوفد المغربي إلى جانب السيد ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، والسيد عمر هلال الممثل الدائم للمملكة المغربية بنيويورك، كل من السيد حمدي ولد الرشيد، رئيس جهة العيون الساقية الحمراء، والسيد ينجا الخطاط، رئيس جهة الداخلة وادي الذهب، والسيدة فاطمة العدلي فاعلة جمعوية وعضو المجلس البلدي لمدينة السمارة، كما أن المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة دي ميستورا اجتمع بهم عند زيارته الأخيرة لأقاليمنا الجنوبية في شتنبر 2023.

كما أوضح جلالته عن المسيرة الخضراء كونها “مسيرة متجددة ومتواصلة، بالعمل على ترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، وجعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري”، فقد ارتضى جلالته برنامج تنمويا بالأقاليم الجنوبية تم توقيعه تحت رئاسة جلالته، في العيون في نونبر 2015 ، والداخلة في فبراير 2016.، ويتعلق الأمر كما ذكر جلالته: “ببرنامج تنموي مندمج، بغلاف مالي يتجاوز 77 مليار درهم، ويهدف إلى إطلاق دينامية اقتصادية واجتماعية حقيقية، وخلق فرص الشغل والاستثمار، وتمكين المنطقة من البنيات التحتية والمرافق الضرورية.

وهو برنامج طموح، يستجيب لانشغالات وتطلعات سكان الأقاليم الجنوبية؛ وتتحمل السلطات المحلية والمنتخبة، مسؤولية الإشراف على تنزيل مشاريعه”.

وأضاف جلالته قائلا: “واليوم، وبعد مرور حوالي سبع سنوات على إطلاقه، فإننا نثمن النتائج الإيجابية، التي تم تحقيقها، حيث بلغت نسبة الالتزام حوالي 80 في المائة، من مجموع الغلاف المالي المخصص له.

فقد تم إنجاز الطريق السريع تيزنيت – الداخلة، الذي بلغ مراحله الأخيرة، وربط المنطقة بالشبكة الكهربائية الوطنية، إضافة إلى تقوية وتوسيع شبكات الاتصال.

كما تم الانتهاء من إنجاز محطات الطاقة الشمسية والريحية المبرمجة.

وسيتم الشروع قريبا، في أشغال بناء الميناء الكبير الداخلة – الأطلسي، بعد الانتهاء من مختلف الدراسات والمساطر الإدارية”.

قبل التطرق إلى المشروع الأطلسي الاستراتيجي، تجدر الإشارة إلى موضوع أطروحة الدكتوراه التي حصل عليها الأمير سيدي محمد سنة 1993 حول “التعاون بين السوق الأوربية المشتركة واتحاد المغرب العربي“.

فقد أشار الموقع الإلكتروني “تلغراف” أن الأمير الجليل، آنذاك، سيدي محمد، وفي معرض حديثه في هذا البحث عن أوجه القصور، التي تتخلل العلاقات بين الاتحاد الأوربي ودول المغرب العربي في مجالات اقتصادية بحثة، أشار سيدي محمد إلى مجال التجارة إلى أن التعاون بين الطرفين على مستواها غير مشجع، مشيرا إلى أن التعاون الإقليمي الأوربي في مجال التجارة لا ينصف بلدان المغرب العربي، من خلال إقرار نظام قانوني خاص، بحيث تم إدراج الدول المغاربية، ضد إرادتها، في السياسة المتوسطية للسياسة الاقتصادية الأوروبية والاتحاد الأوروبي وذلك إثر التوقيع على اتفاقية “لومي“.

من هنا يتضح لنا استيعاب جلالته للتعاون الدولي وإدراكه لتحديات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي كان من الطبيعي أن تنتج عبقريته مشروعا أطلسيا استراتيجيا يقول عنه في خطابه السامي لهذه السنة:

“وإذا كانت الواجهة المتوسطية، تعد صلة وصل بين المغرب وأوروبا، فإن الواجهة الأطلسية هي بوابة المغرب نحو افريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأمريكي”.

وطبعا انبثق هذا المشروع الرائد من التحديات والرهانات التي تشغل بال الشعوب والقيادات في المنطقة المتسمة بعدة مخاطر تهدد استقرارها ونموها، ليقدمه جلالته كحل تنموي عملي يستفيد منه كل الأصدقاء والشركاء ويتفاعلون معه بما يقوي أساسه ويضمن نجاحه.

وقد أعلن جلالته عن بشائره في الخطاب السامي لسنة 2020 حيث قال جلالته:

“إن التزامنا بترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، لايعادله إلا عملنا المتواصل، على جعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري… واستكمالا للمشاريع الكبرى، التي تشهدها أقاليمنا الجنوبية، فقد حان الوقت، لاستثمار المؤهلات الكثيرة، التي يزخر بها مجالها البحري”.

بهذا الخصوص، استحضرت المملكة المغربية التحديات التي يمكن أن تواجهها العلاقة المغربية الإسبانية، والتي يمكن لمناورات الخصوم أن تذكيها بحقدها وادعاءاتها الكاذبة، وبالتالي سارعت المملكة إلى فتح حوار جاد ومسؤول مع الجارة اسبانيا أشار إليه جلالته في خطابه سنة 2020:

“وفي هذا الإطار، أكمل المغرب خلال هذه السنة، ترسيم مجالاته البحرية، بجمعها في إطار منظومة القانون المغربي، في التزام بمبادئ القانون الدولي.

وسيظل المغرب ملتزما بالحوار مع جارتنا إسبانيا، بخصوص أماكن التداخل بين المياه الإقليمية للبلدين الصديقين، في إطار قانون البحار، واحترام الشراكة التي تجمعهما، وبعيدا عن فرض الأمر الواقع من جانب واحد.

فتوضيح نطاق وحدود المجالات البحرية، الواقعة تحت سيادة المملكة، سيدعم المخطط، الرامي إلى تعزيز الدينامية الاقتصادية والاجتماعية…

وانطلاقا من هذه الرؤية، ستكون الواجهة الأطلسية، بجنوب المملكة، قبالة الصحراء المغربية، واجهة بحرية للتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي.”

نظرية صاحب الجلالة في هذا المكون الأطلسي الاستراتيجي ترتكز على ربط البرنامج التنموي المحلي بالتعاون مع أوروبا، والشراكة مع أمريكا، والاشتغال مع افريقيا بمنطق “رابح، رابح”، دون إغفال الالتفات إلى مناطق افريقية تعيش تحت رحمة التهديدات الأمنية وقساوة الأحوال الجوية، وشح الموارد الطبيعية.

هكذا أوضح جلالته في خطاب 2023 أن “غايتنا أن نحول الواجهة الأطلسية، إلى فضاء للتواصل الإنساني، والتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي.

لذا، نحرص على استكمال المشاريع الكبرى، التي تشهدها أقاليمنا الجنوبية، وتوفير الخدمات والبنيات التحتية، المرتبطة بالتنمية البشرية والاقتصادية.

وكذا تسهيل الربط، بين مختلف مكونات الساحل الأطلسي، وتوفير وسائل النقل ومحطات اللوجستيك؛ بما في ذلك التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني، قوي وتنافسي.

ولمواكبة التقدم الاقتصادي والتوسع الحضري، الذي تعرفه مدن الصحراء المغربية، ينبغي مواصلة العمل على إقامة اقتصاد بحري، يساهم في تنمية المنطقة، ويكون في خدمة ساكنتها.

اقتصاد متكامل قوامه، تطوير التنقيب عن الموارد الطبيعية في عرض البحر؛ ومواصلة الاستثمار في مجالات الصيد البحري؛ وتحلية مياه البحر، لتشجيع الأنشطة الفلاحية، والنهوض بالاقتصاد الأزرق ، ودعم الطاقات المتجددة…”

من بين النقط التي أثارت انتباه المتتبعين بشكل كبير في الخطاب الملكي السامي لهذه السنة 2023 هو تركيز جلالته على “التنقيب عن الموارد الطبيعية في عرض البحر” ضمن قوام الاقتصاد المتكامل الذي ذكره جلالته خاصة إذا علمنا مايزخر به جبل طروبيك من معادن نفيسة أسالت لعاب عدة أطراف، وشكلت موضوع نقاش مع جزر الكناري وانتباه قوى عالمية تريد أن تكسب بها ود المملكة المغربية التي لن تنطوي عليها حيلة الثعلب والجبن الموجود بين منقار الغراب الذي أراد الثعلب الحصول عليها بكلام معسول.

وبتأكيد جلالته على “التنقيب عن الموارد الطبيعية في عرض البحر”، يكون جلالته قد حسم موضوع التنقيب لصالح المغرب في اقاليمه الجنوبية.

والصيد البحري لايقل أهمية على التنقيب، وهو الموضوع الذي كان مثار نقاش ومناورات يائسة من طرف الجزائر وصنيعتها البوليساريو التي تقدمت بشكايات عديدة باعتبار أن “اتفاقيات الصيد البحري مع أوروبا تشمل مناطق متنازع عليها”، وهو الموضوع الذي حسمه المغرب لصالحه بالرد عليه بشكل وازع لكون المرتزقة” لايتوفرون على صفة تمثيل ساكنة أقاليمنا الجنوبية وصفة توقيع الاتفاقيات، والمنطقة المشار إليها تقع تحت السيادة المغربية.

مايميز المشروع الأطلسي الذي تحدث عنه جلالة الملك هو التكامل بين فقراته، واعتماده على الشراكة بالتشاور والتخطيط والتنفيذ والاستفادة المشتركة لكل الأطراف باحترام لانتظاراتها ومكوناتها.

بهذا الخصوص يقول صاحب الجلالة في خطابه السامي لسنة 2023:

“إن المغرب، کبلد مستقر وذي مصداقية، يعرف جيدا الرهانات والتحديات، التي تواجه الدول الإفريقية عموما، والأطلسية على وجه الخصوص.

فالواجهة الأطلسية الإفريقية، تعاني من خصاص ملموس في البنيات التحتية والاستثمارات، رغم مستوى مؤهلاتها البشرية، ووفرة مواردها الطبيعية.

ومن هذا المنطلق، نعمل مع أشقائنا في إفريقيا، ومع كل شركائنا، على إيجاد إجابات عملية وناجعة لها، في إطار التعاون الدولي.

وفي هذا الإطار، یندرج المشروع الاستراتيجي لأنبوب الغاز المغرب – نيجيريا.

وهو مشروع للاندماج الجهوي، والإقلاع الاقتصادي المشترك، وتشجيع دينامية التنمية على الشريط الأطلسي، إضافة إلى أنه سيشكل مصدرا مضمونا لتزويد الدول الأوروبية بالطاقة”.

وهو نفس التوجه الذي ركز عليه جلالته في خطابة السنة الماضية 2022 حيث قال جلالته:

“وفي هذا الإطار، بادرنا مع أخينا فخامة السيد محمدو بوخاري رئيس جمهورية نيجيريا الفيدرالية بإطلاق مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب.

ويسعدنا اليوم، أن نسجل التقدم الذي يعرفه هذا المشروع الكبير، طبقا للإطار التعاقدي، الذي تم توقيعه في دجنبر 2016.

وتشكل مذكرة التفاهم الموقعة مؤخرا، بالرباط، مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وفي نواكشوط مع موريتانيا والسنغال، لبنة أساسية في مسار إنجاز المشروع.

ويعكس هذا التوقيع التزام البلدان المعنية، بالمساهمة في إنجاز هذا المشروع الاستراتيجي، وإرادتها السياسية لإنجاحه.

واعتبارا لما نوليه من أهمية خاصة، للشراكة مع دول غرب القارة، فإننا نعتبر أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، أكثر من مشروع ثنائي، بين بلدين شقيقين.

وإنما نريده مشروعا استراتيجيا، لفائدة منطقة غرب إفريقيا كلها، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 440 مليون نسمة… إنه مشروع من أجل السلام، والاندماج الاقتصادي الإفريقي، والتنمية المشتركة : مشروع من أجل الحاضر، والأجيال القادمة”.

وكما أشرت سابقا، فإن المشروع الأطلسي يتميز بتكامل فقراته، ويقدم نفسه مشروعا لامثيل له في العالم، يجمع عدة دول في استثمار واحد تجمعها قواسم مشتركة متكاملة، وبالتالي فقد أكد جلالته في خطابه لهذه السنة بأن نفس التوجه الذي حكم أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب هو “الذي دفع بالمغرب، لإطلاق مبادرة إحداث إطار مؤسسي، يجمع الدول الإفريقية الأطلسية الثلاثة والعشرين، بغية توطيد الأمن والاستقرار والازدهار المشترك”.

ونذكر أنه في يوم 08 يونيو 2022 تم عقد الاجتماع الوزاري الأول لدول أفريقيا الأطلسية بمشاركة 21 بلداً أفريقياً مطلاً على الواجهة الأطلسية.

وفي الجلسة الافتتاحة للاجتماع المذكور، أوضح السيد ناصر بوريطة في كلمته أن “هذه المبادرة لا تسعى لمنافسة منظمات إقليمية أخرى أو تكتلات أفريقية أطلسية”، مبينا على أن طموح مسلسل الرباط “هو تمكين أفريقيا من الإمساك بزمام الأمور على صعيد الأطلسي، وصياغة مواقف مشتركة، وعلى المدى الطويل تحقيق الارتباط مع بلدان الضفة الأخرى الجنوبية للمحيط الأطلسي وأميركا اللاتينية”.

والجدير بالذكر أن الدول الأفريقية الـ23 المطلة على المحيط الأطلسي تمثل 46 في المائة من سكان أفريقيا، وأن هذا الفضاء يتركز فيه 55 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأفريقي، وأن اقتصاداته تحقق 57 في المائة من التجارة القارية،  وتعد منطقة أفريقيا الأطلسية  “محط أطماع وتنافس، وهي تواجه تحديات أمنية غير مسبوقة، بفعل تصاعد التهديدات غير المتكافئة، والجريمة العابرة للحدود، وانعدام الأمن البحري، والقرصنة والإرهاب والجريمة المنظمة”.

 وفي هذا الإطار، أوضح بوريطة في كلمته أن “الجريمة العابرة للحدود هي سبب ونتيجة في الآن نفسه؛ لضعف الشبكة الأمنية، وضعف حضور الدولة، والتسلل عبر الحدود، وعدم الاستقرار السياسي والمؤسساتي” مشيراً إلى أن الدول الأفريقية الأطلسية لا تتلقى سوى 4 في المائة من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر نحو الفضاء الأطلسي، مقابل 74 في المائة بالنسبة إلى دول الضفة الشمالية، وذلك رغم الإمكانات الاقتصادية المتنامية لأفريقيا الأطلسية.”


ارتكازا على هذه المعطيات السالفة الذكر، اتجه بعد نظر جلالته نحو اعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة ذكرها جلالته في خطابه السامي لهذه السنة:

“إن المشاكل والصعوبات، التي تواجه دول منطقة الساحل الشقيقة، لن يتم حلها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط؛ بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة.

لذا، نقترح إطلاق مبادرة على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي.

غير أن نجاح هذه المبادرة، يبقى رهينا بتأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي.

والمغرب مستعد لوضع بنياته التحتية، الطرقية والمينائية والسكك الحديدية، رهن إشارة هذه الدول الشقيقة؛ إيمانا منا بأن هذه المبادرة ستشكل تحولا جوهريا في اقتصادها، وفي المنطقة كلها”.

بهذه الرؤية الملكية، يكون صاحب الجلالة قد أنهى أحلام الراغبين في إيجاد منفذ إلى المحيط الأطلسي بالمناورات السياسية الدنيئة، ووضع تصورا تنمويا دوليا تنخرط فيه عدة دول من افريقيا وخارجها مستحضرا الأبعاد الأمنية والتنموية التي تنشدها دول المنطقة المتحدث عنها تندمج فيها دول الساحل التي تواجه عدة تحديات بفك العزلة عنها وتحريرها من الاستغلال الذي تمارسه عليها دول من داخل وخارج افريقيا.

فجلالة الملك يريد بالبعد التنموي إشراك الدول المعنية في التركيز على إسعاد الإنسان باستثمار طاقاته وموارد بلاده، وانخراط مكونات دولية في حصار منابع اللاستقرار بحزام تنموي دولي يروم سد الفراغات والتفاصيل التي تفرز التحديات الأمنية وتشكل مرتعا لتفريخ نوازع التطرف التي يجب ألا يكون له مكان في عالمنا المتحضر.

بعد تحديد التصور العام للمشروع الأطلسي الاستراتيجي، كان لابد من تذكير الشعب المغربي بما يجب القيام به، وكذلك التذكير بخصال الشعب المغربي الأبي الذي يعترف بها العالم كله، وهو ما أوضحه جلالته في ختام خطابه السامي لهذه السنة:

“لقد تكلمت عن الجدية، وعن القيم الروحية والوطنية والاجتماعية، التي تميز الأمة المغربية، في عالم كثير التقلبات.

وقد جسدت المسيرة الخضراء هذه القيم العريقة؛ قيم التضحية والوفاء وحب الوطن، التي مكنت المغرب من تحرير أرضه، واستكمال سيادته عليها.

وعندما تكلمت عن الجدية، فذلك ليس عتابا؛ وإنما هو تشجيع على مواصلة العمل، لاستكمال المشاريع والإصلاحات، ورفع التحديات التي تواجه البلاد. وهو ما فهمه الجميع، ولقي تجاوبا واسعا، من مختلف الفعاليات الوطنية.”

وهي نفس الروح، ونفس التوجه الذي أكد عليه جلالته في الخطاب السامي لسنة 2020:

“إن الوفاء لروح المسيرة الخضراء، ولقسمها الخالد، يتطلب من جميع المغاربة، مواصلة التعبئة واليقظة، والعمل الجاد والمسؤول، لرفع التحديات الداخلية والخارجية.

فعلينا جميعا استحضار هذه الروح، وهذه القيم، لمواصلة إنجاز المشاريع، التنموية والاجتماعية، والدفاع عن مصالحنا وقضايانا العادلة، وتعزيز مكانة المغرب في محيطه الإقليمي والدولي”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى