في تأبين الفقيد امحمد مستعد: خالد فضيل يدعو إلى التمرد على قيادات الأحزاب والنقابات وإلى تجديد النخب، وإلى بناء يسار جديد من أجل مشروع إصلاحي واقعي و حازم.

لقد فقدنا، كلنا، الصديق الكبير و الأخ الكريم و الرفيق العزيز امحمد مستعد الذي رحل فجأة يوم الجمعة 19 أبريل الماضي بعد أن قرر قلبه النقي التوقف عن الخفقان في هذا العالم الذي اشتد فيه البؤس و اليأس و الحيف و الصلافة و السماجة و التفاهة.

وبشكل تلقائي إتفقنا، نحن أصدقائه و رفاقه، على ألا ننساه أبدا و على أن نبقى أوفياء لذكراه و لما جمعنا من قيم و مبادئ و هواجس و أحلام وطموحات وعلى بعث رسالة، في هذا الاتجاه، إلى روحه الطاهرة من خلال هذا التأبين و لربما من خلال ما قد يطرأ على دينامية النضال الفكري و السياسي و الاجتماعي من تحولات نوعية في هذه المدينة التي عاش فيها امحمد و كافح فيها امحمد و أسلم الروح فيها إلى باريها…

هناك إجماع ضمني و صريح على أنه في ذمتنا حقوق للفقيد. أولها أن يعلم الرأي العام شيئا عمن هو امحمد مستعد و ماذا كان يريد. ثانيها أن نعيد بناء العلاقات الإنسانية بين المناضلين على قاعدة قيم التضامن و المحبة و الإيخاء و أن نستفيق من السقوط الذي دفعتنا إليه فخاخ حدود تنظيمية وهمية وضعت بيننا، مع سبق الإصرار و الترصد، هنا ….و هناك.

وثالثا و رابعا و أبدا أن نتلمس بشكل جماعي و بكل شجاعة و جسارة و طموح سبيلا آخرا ليسار جديد، يسار قد يكون واقعيا و قد يكون إصلاحيا لكنه جدي و جريء و حازم ومستعد لتقديم ثمن الديمقراطية و الحريات والعدالة الاجتماعية و حقوق الناس، يسار يعرف جيدا تحديد التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي و التمييز بينهما مع ما لهاذا التحديد والتمييز من آثار على التصور و البرنامج و الفعل، يسار لا يشتكي من الفساد و الاستبداد بل يعمل على إنهاكهما و حسم النزال معهما، يسار لا يكتفي بتسجيل المواقف للتاريخ بل يكون فاعلا حاسما في موازين قوى الصراع السياسي و الاجتماعي و صانعا للتاريخ في كافة قضايا شعبنا ومعضلات البلاد ومعادلات العالم.

عرفت امحمد مستعد ذات يوم من سنة 1982 عندما كانت تتشكل معالم تجربة فريدة لشبيبات اليسار الجذري بوجدة بين درب امباصو و مستوصف الرياض و حي لازاري، لتتمدد فيما بعد إلى جل أطراف المدينة.

كنا سوية نكتشف و نستكشف و نتعرف على الفكر الماركسي و القومي و على كتابات الطيب التيزيني و جورج طرابشي و محمد عابد الجابري و عبد الله العروي و حسين مروة و نيكولاس بولانتزاس … و على الخلاف بين لينين و ماو و التجارب الثورية في أمريكا اللاتينية و شؤون لبنان و السودان و القضية الفلسطينية و أمورا أخرى. كان كل هذا بفضل الدور الذي لعبه عدد من أساتذتنا بإعدادية و ثانوية وادي الذهب، خاصة السي عبد الوهاب منديل و محمد لغرايب و خالد الرمضاني و آخرين. كما كنا نطلع على رأي و تضحيات منظمة إلى الأمام و حركة 23 مارس و لنخدم الشعب عبر الوثائق التي كانت تصل إلينا بهذه الطريقة أو تلك… .فتشكلت مجموعة من المناضلات و المناضلين هي من ستقود انتفاضة يناير 1984 و الفعل الثقافي بدار الشباب في نادي عكاض الذي كان يرأسه الفقيد يحيى الشيحي ثم جمعية الشعلة بدار الشباب ظهر المحلة و بجمعية المسرح الشعبي بالمركب الثقافي و ستواجه، و في الوقت ذاته، استبداد الدولة من جهة والقوى التي كنا نعتبرها رجعية من جهة أخرى. كانت المواجهات مفتوحة على الاعتقال والاختطاف من قبل أجهزة سنوات الجمر والرصاص وعلى التصفية الجسدية من قبل قوى النكوص التي لم تكن تتردد بوضع أسمائنا على لوائحها السوداء.

كان منا من يميل إلى الهدوء والحكمة و الرصانة، وهنا لا بد من شهادة إنصاف، للحقيقة وللتاريخ، في حق كل من الأخوين محمد رزوق و يحيى طالوش.

و كان استعجال المواجهة مع النظام و الجذرية و الاستعداد للتضحية دون حساب العواقب، صفات ملازمة لمحمد مستعد و بوجمعة العسري و عبد ربه لكن، ورغم كل ما كان يحصل بيننا من خلافات، فإن الانسجام والمحبة و التعاضد فيما بيننا و حماية بعضنا البعض و تطوير علاقاتنا لتشمل عائلاتنا، منح علاقتنا السياسية مضمونا إنسانيا رفيعا و لعل هذا ما سنترجمه بتلقائية و دون اكتراث لتربص الأجهزة الأمنية عند التفافنا حول أسرة الأخ عبد الرزاق وئام الذي كان قد تعرض للاعتقال و حكم بسنتين سجنا إثر انتفاضة يناير 1984 و عاش قساوة و مأساة فقدان الوالد و هو بين جدران السجن. وبالمناسبة، فلقد كانت مجموعتنا هي من قرر وخطط و نفذ انتفاضة يناير 1984 بوجدة من خلال تعميم الإضراب التلاميذي في إعدادية و ثانوية وادي الذهب والرياض و ولي العهد و نقل المسيرات التلاميذية إلى السوق الأسبوعي للازاري و الانتقال بها إلى زنقة مراكش و ساحة باب سيدي عبد الوهاب ليتدخل القمع بشراسة و تنزل قوات الجيش إلى الشارع و تعلن حالة منع التجوال و تبدأ عملية واسعة لاعتقال الطلبة و التلاميذ كان ضمنهم أحمد الجزولي و حكيم بنشماس …قبل ذلك عشنا النقاش حول السرية و العلنية بعد خروج منظمة العمل الديمقراطي الشعبي إلى الفعل السياسي القانوني سنة 1983 و بعد ذلك تفرغنا للعمل الثقافي في الجمعيات و دور الشباب إلى أن انتقلت للدراسة بالدار البيضاء عام 1988.

بقيت علاقتنا مستمرة وطيدة و مفعمة بمشاعر المحبة و تبادل الزيارات التي كانت لا تكاد تخلو من هاجس تجميع شتات اليسار و هذا ما سيجمعنا بعد انطلاق دينامية التجميع إثر إطلاق سراح مجموعة كبيرة من المعتقلين السياسيين سنة 1989 و 1991 و صدور جريدة الأفق و صحافة المواطن بداية تسعينات القرن الماضي. ثم تفرقت بنا السبل إلى أن جمعنا تنسيق العمل النضالي حين تحملي لمسؤولية الكتابة الجهوية للاتحاد المغربي للشغل بوجدة و تحمل الفقيد امحمد مستعد لأعباء حركة المعطلين.

على امتداد 42 سنة، أكيد أنه جمعتنا الكثير من المواقف و التجارب و فرقتنا بعض الخلافات، إلا أن الأساسي في الأمر أن أواصر الأخوة و المحبة والاحترام لم تتراجع أبدا و لم تسقط أبدا حتى على سبيل السهو.

كنا نتفق ونختلف حول مواقف و قضايا لكننا لم نختلف يوما حول الجوهر الإنساني لتاريخنا المشترك لسبب بسيط و هو أن امحمد مستعد و كل جيلنا، تعرف على الفكر و السياسة بوعي فطري يحب الخير للناس …لكل الناس و لم يكن مكان في قلوبنا للضغينة و للأحقاد. امحمد مستعد كان و برغم صرامته السياسية قلب كبير يغضب، أي نعم، لكنه كالحليب يفيض بالبياض. لقد رحل عنا الكثير من الرفاق الذين كانت لهم مكانة خاصة في وجداني، كعلي القيطوني و عبد الله زعزاع و محمد نجيب بودلال و عبد اللطيف زريكم، لكنني لست أدري لماذا راودتني فكرتان بمجرد علمي بنبإ رحيل امحمد مستعد.فكرة أن يتعانق المناضلون الديمقراطيون من جديد و أن يتسامحوا و يأسسوا و يأصلوا لقيم التضامن و التآزر و التآخي و المودة …و فكرة أن يتخذ هؤلاء المناضلون، بوجدة، مبادرة صياغة رؤية جديدة ليسار جديد.قضايا بلادنا و شعبنا و ما يجري في العالم من حولنا تستدعي فعلا سياسيا و اجتماعيا يتجاوز النمطية و البؤس و التخاذل الذي سجنتنا فيه نخب الأحزاب و النقابات التي باتت جزءا كبيرا من المشكل و ليس بمقدورها، بأي حال من الأحوال، أن تكون جزءا من الحل.لذلك أدعوكم إخواني و رفاقي إلى ما اقترحه الفقيد أبراهام السرفاتي، و هو في السجن و في المنفى، أدعوكم إلى منتدى للنقاش بين المناضلين يخلص إلى وثيقة سياسية تجيب عن المرحلة و تكون تعاقدا فيما بيننا و فيما بيننا وبين الناس حول فعل سياسي و اجتماعي جديد، نطرحها على أنظار كافة المناضلات و المناضلين في المناطق و الجهات لعلها تكون الحجرة التي تكسر هذا الجليد…لدي هذا الحلم و هذا الحلم هو بالضبط آخر ما تحدثت فيه مع امحمد مستعد يوم الثلاثاء 16 أبريل الماضي أي 3 أيام قبل وفاته حين ذكرته مازحا أنني ما زلت أنتظر أرضية النقاش التي كان قد وعد بها أيام محاولات التجميع.لنصغ تلك الأرضية جميعا تكريما لفقيدنا…رحمك الله صديقي و رفيقي و أخي امحمد و جعل مثواك الجنة و السلام على روحك الطاهرة.

و السلام/.

خالد فضيل وجدة في 18 مايو 2024.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى