محاكمة الصحافي عبد الحق بلشكر: جدل قانوني يثير تساؤلات حول حرية الصحافة وقانون النشر

افتتحت المحكمة الابتدائية بالرباط، الثلاثاء 13 ماي 2025، أولى جلسات محاكمة الصحافي عبد الحق بلشكر، مدير نشر موقع “اليوم 24“، في قضية الشكوى التي رفعها وزير العدل عبد اللطيف وهبي، بدعوى “القذف” و”الإهانة” و”نشر وقائع غير صحيحة” في مقال بعنوان “حقيقة كذبة وزير العدل“.
هذه القضية، التي أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط القانونية والإعلامية، تسلط الضوء على التوتر بين حرية الصحافة وتطبيق قانون الصحافة والنشر في المغرب، مع تداعيات محتملة على العلاقة بين السلطة والإعلام.
تفاصيل الجلسة: إجراءات أولية وتأجيل
ترأس القاضي الجلسة، معلنًا حضور الصحافي بلشكر برفقة محاميه العربي فنيدي، الذي ناب عن النقيب عبد الرحيم الجامعي المتواجد خارج المغرب. في المقابل، سجل غياب دفاع الوزير وهبي، مما أثار تساؤلات حول جدية المتابعة في هذه المرحلة. وقد طالب دفاع بلشكر بتصحيح خطأ في الاسم الوارد في الاستدعاء، وهو ما استجابت له المحكمة، قبل أن تقرر تأجيل القضية إلى 17 يونيو 2025 لاستكمال الإجراءات.
خلفية القضية: تصريح مثير للجدل وتحقيق صحافي
تعود الواقعة إلى تصريحات أدلى بها الوزير وهبي في 28 ماي 2024، خلال مناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية بلجنة العدل والتشريع بمجلس النواب. حيث انتقد وهبي بشدة الخبراء القضائيين، مدعيًا أن أحدهم في سيدي بنور قيّم عقارًا بـ200 مليون سنتيم للمتر المربع، وهو رقم وصفه بـ”غير المنطقي”، مضيفًا أن مثل هذه التقييمات تساهم في “اتساخ القضاء”.
هذه التصريحات أثارت استغراب النواب والجمهور، نظرًا لعدم معقولية الرقم في سياق مدينة صغيرة مثل سيدي بنور.
بناءا على ذلك، نشر موقع “اليوم 24” مقالاً تحقيقيًا يكشف تفاصيل ملف النزاع المشار إليه، حيث اتضح ان الامر يتعلق بنزاع طويل بين مواطن والبنك المغربي للتجارة الخارجية حول 4 أمتار مربعة استحوذ عليها البنك (او تم البناء عليها خطأ من قبل مقاول تكفل ببناء مقر للبنك بذات المكان). وخلال مسار الدعوى، قرر صاحب العقار استغلال أرضه المجاورة، فشيّد عمارة ذات واجهة زجاجية تتكون من طابق أرضي وخمسة طوابق: أربعة مخصصة لمكاتب للبيع مع مصعد خاص، والخامس لمقهى ومطعم بمصعد منفصل.
لكن عند طلبه رخصة السكن، رفضت السلطات طلبه بسبب تداخل الرسوم العقارية بين أرضه ورسم البنك، مما زاد من تعقيد النزاع وتوقف المشروع لسنوات.
وبعد تعاقب سبعة خبراء قضائيين على الملف على مدى عقد، وقدّرت الخبرة الأخيرة التعويض بـ800 مليون سنتيم، لكن المحكمة قضت في النهاية بـ500 مليون سنتيم، مراعيةً قيمة الأرض (20 ألف درهم للمتر المربع) والضرر الناتج عن توقف المشروع. أوضح المقال أن تصريح الوزير تضمن مبالغة، حيث لم يكن التقييم بـ200 مليون سنتيم للمتر، بل تعويضًا شاملاً للضرر.
وأوضح المقال أن تصريح الوزير تضمن مبالغة، حيث لم يكن التقييم بـ200 مليون سنتيم للمتر، بل كان تعويضًا شاملاً للضرر.
الإجراءات القانونية: شكوى ومتابعة
استاء الوزير وهبي من المقال، معتبرًا أنه يتضمن “إهانة” بوصفه بـ”الكذب” و”قذفًا” بنشر وقائع غير صحيحة. وبما أن وهبي يتمتع بحصانة كوزير، تقدم بشكوى إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش، الذي وافق على رفع الشكوى إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط.
أحيلت القضية بعدها إلى فرقة محاربة الجريمة المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة بالشرطة القضائية، التي استمعت إلى بلشكر في 21 يونيو 2024، قبل أن تبدأ الإجراءات القضائية رسميًا.
تحليل قانوني: حرية الصحافة مقابل قانون الصحافة والنشر
تثير هذه القضية إشكاليات قانونية وأخلاقية تتعلق بحدود حرية الصحافة في المغرب. بموجب قانون الصحافة والنشر المغربي (القانون 88.13)، يُعاقب القذف ونشر الأخبار الكاذبة بعقوبات تصل إلى الحبس والغرامة، لكن يشترط أن تكون الوقائع المنشورة غير صحيحة وتُسبب ضررًا مباشرًا للشخص المعني.
في هذه القضية، يبدو أن المقال المنشور استند إلى وثائق ومعطيات من ملف قضائي، مما يعزز مصداقيته ويجعله جزءًا من التحقيق الصحافي المشروع.
ومع ذلك، فإن استخدام عبارة “كذبة” في العنوان قد يُفسر على أنه إهانة شخصية، وهو ما يعتمد عليه الوزير في شكواه.
من ناحية أخرى، يحمي الدستور المغربي (الفصل 28) حرية الصحافة، وتؤكد الاتفاقيات الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 19)، على حق الصحافيين في النقد والتحقيق، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسؤولين عموميين.
في هذا السياق، يمكن القول إن تصريح الوزير، الذي تضمن مبالغة واضحة، يفتح المجال للصحافة للتحقق والتصحيح، دون أن يُعتبر ذلك قذفًا.
لكن غياب دفاع الوزير في الجلسة الأولى قد يُضعف موقفه، حيث يتطلب إثبات القذف تقديم دلائل على الضرر الشخصي والنية السيئة من جانب الصحافي.
نقاش: توازن دقيق بين حرية التعبير والمسؤولية
تُبرز هذه القضية التوتر المستمر بين السلطات العمومية والإعلام في المغرب. فمن جهة، يحق للوزير وهبي الدفاع عن سمعته، خاصة إذا اعتبر أن المقال تجاوز حدود النقد الموضوعي. ومن جهة أخرى، يُعد عمل “اليوم 24” نموذجًا للصحافة الاستقصائية التي تسعى لكشف الحقائق وتصحيح المعلومات المغلوطة، وهو دور أساسي في تعزيز الشفافية.
لكن استخدام مصطلحات مثل “كذبة” قد يُفسر كتجاوز للأخلاقيات الصحافية، حتى لو كان المقال مدعومًا بالوثائق.
تاريخيًا، شهد المغرب عدة قضايا مماثلة، حيث واجه صحافيون اتهامات بالقذف بسبب تقاريرهم حول مسؤولين. على سبيل المثال، قضية الصحافي توفيق بوعشرين في 2018 أثارت نقاشًا واسعًا حول استخدام القانون لتقييد حرية الصحافة. ووفقًا لتقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2024، يحتل المغرب المرتبة 129 عالميًا في مؤشر حرية الصحافة، مما يعكس تحديات مستمرة في هذا المجال.
تداعيات محتملة
إذا أدين بلشكر، فقد يُشكل ذلك سابقة قانونية تُثني الصحافيين عن تناول تصريحات المسؤولين بشكل نقدي، مما يُضعف دور الإعلام كرقيب على السلطة.
في المقابل، إذا رفضت المحكمة الشكوى، فقد يُعزز ذلك ثقة الصحافيين في ممارسة دورهم بحرية أكبر، شريطة الالتزام بالدقة والموضوعية.
كما أن غياب دفاع الوزير في الجلسة الأولى قد يُفسر كضعف في الحجة القانونية، لكن الأشهر القادمة ستكشف عن مدى جدية المتابعة.
استنتاج
تُعد قضية بلشكر اختبارًا للنظام القانوني المغربي في تحقيق التوازن بين حماية سمعة الأفراد وحرية الصحافة.
ومع تأجيل القضية إلى يونيو 2025، يبقى السؤال المطروح: هل ستكون هذه القضية فرصة لتعزيز حرية التعبير، أم ستُستخدم كأداة لتقييد النقد الصحافي؟ يترقب الإعلاميون والحقوقيون تطورات هذا الملف، الذي قد يكون له تأثير بعيد المدى على المشهد الإعلامي في المغرب.