مشروع المبادرة الأطلسية بين الطموح والواقع.
يتم الحديث كثيرا في الأوساط الإعلامية عن المشروع الأطلسي الموجه لدول الساحل خاصة بعد ان ورد في الخطاب الملكي الأخير .وهو المشروع الذي يمكن أن يشكل قاطرة للتنمية بالنسبة لهذه الدول التي لا تتوفر على منفذ بحري. علما ان هذا المشروع كان دائما مطروحا في كواليس الدبلوماسية المغربية وموجها للجزائر بالدرجة الأولى التي لا تتوفر على منفذ اطلسي لتصدير مواردها الموجودة في جنوب البلاد وعلى حدودها المشتركة مع المغرب التي لا تبعد في بعض نقاطها عن المحيط الأطلسي أكثر من 250 كلم وهو ما كان سيقلل كثيرا من تكلفة الإنتاج والتصدير و يزيد من قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية. دون إغفال ما يمكن قد ينتج عن هذا المشروع الاقتصادي و التجاري من إمكانيات هائلة لتنمية منطقة الصحراء الشرقية والغربية .كل هذا لو تخلت الدولة الجزائرية عن دعمها لحركة الانفصال في الصحراء المغربية وتبنت سياسة الانفتاح الإيجابي على المغرب.
لكن ماذا استجد حتى أصبح المشروع علانيا و موجها حسب التصور الجديد لدول منطقة الساحل الأفريقي رغم أن الجزائر ليست بعيدة عنه حسب القائمين على المشروع ؟ . حتى وان تجنبوا ذكرها بشكل علني وذلك لأسباب مرتبطة بالتوتر الخطير الذي تشهده العلاقات المغربية الجزائرية.
إن المشروع في حد ذاته يعد طموحا. ولا يمكن الا ان ينعكس ايجابا على كل منطقة شمال غرب أفريقيا .لكن لماذا أعلن عنه في هذه المرحلة بالضبط ؟. وهل فعلا تتوفر شروط نجاحه في ظل الأوضاع التي تشهدها المنطقة ؟.
السياق السياسي /
ان المغرب سبق له ان تقدم بطلب الانضمام الى المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا / ايكواس سنة 2017 و لم يتم قبول طلبه لحدود هذه السنة .كما أن خلال سنة 2024 شهدت المجموعة تصدعا داخليا عقب الانقلابات العسكرية المدعومة شعبيا على انظمة حكم فاسدة موالية لفرنسا والتي همت بعض الدول داخل المجموعة .وهو التصدع الذي بلغ حد تجميد عضوية هذه الدول و محاصرتها اقتصاديا اضافة الى التهديد بالتدخل العسكري لفرض عودة ما سموه “بالشرعية الديمقراطية “المتمثلة في الرؤساء المخلوعين .وهو ما أدى بالاضافة الى عوامل اخرى بهذه الدول المعنية إلى الانسحاب نهائيا من الإيكواس وتأسيس مقابل ذلك تحالف مجموعة دول الساحل الذي يشمل كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو.وفي السياق نفسه عملت هذه المجموعة المنسحبة إلى تطوير شراكتها الاقتصادية والأمنية مع القوى الشرقية روسيا والصين بديلا عن فرنسا وأمريكا. وهو النهج الذي سارت عليه دول اخرى من داخل مجموعة إيكواس . كما شهدت علاقات هذه الدول كذلك توترا ملحوظا مع جارتها الشمالية الجزائر عقب تراجع مالي عن اتفاق الجزائر الذي وقعته مع الحركة الانفصالية أزواد مما تسبب في صراع عسكري مع هذه الحركة المتواجدة على تخوم الحدود الجزائرية وهو ما احتجت عليه هذه الاخيرة داخل اروقة الامم المتحدة.وحملت المسؤولية لعناصر فاغنر الروسية وطالبت بسحبها من هذه الدول .
استحضارا لكل هذه المعطيات يبدو أن المبادرين الى المشروع قد اختاروا الظروف المناسبة لطرحه بهدف إحداث خرق اقتصادي وسياسي في منطقة شمال غرب أفريقيا .كما أنه يشكل ردا على عدم قبول عضوية المغرب داخل مجموعة إيكواس .اضافة الى استمالة بعض دول الساحل التي توترت علاقتها بجارتها الشمالية الجزائر. وأصبحت سجينة حدودها الداخلية بعد انسحابها من المجموعة السالفة الذكر .لكن شتان بين الواقع والطموح .فالمشروع في حد ذاته تواجه الكثير من الصعوبات سواء تلك المتعلقة بالجغرافيا أو تلك المتعلقة بالمحاور السياسية.
أن المغرب بعد زيارة الرئيس الفرنسي الاخيرة للمغرب والاستقبال العائلي الذي حظي به من طرف القصر الملكي في الرباط. وبغض النظر عن الاتفاقات الكثيرة التي وقعت مع الجانب الفرنسي التي شملت كل المجالات بما فيها الامنية والدفاعية. وهي في الاول والاخر تطوير لبنود اتفاقية ايكس ليبان. ولا تهم بالضرورة موقف فرنسا” ماكرون” من الصحراء المغربية الذي يمكن ان يتبدل مع أي حاكم جديد لقصر الاليزيه . قد حسم أمر اختيار حليفه الاستراتيجي ، بما يعنيه ذلك من عودة إلى الأصول التاريخية بين العرش المغربي وفرنسا منذ عهد الحماية .وبالتالي غلبة التوجه الفرنكفوني على التوجه الانجلو ساكسوني بارادة ملكية ،وذلك عكس ما كان متداولا في وسائل الإعلام وبعض أقلام الأكاديميين المبجلين للخطاب الاستهلاكي حول توجه المغرب نحو أمريكا وإنجلترا بدل فرنسا .
ان المغرب وبهذا الارتباك الأمني والاقتصادي مع الدولة الفرنسية التي طردت من دول افريقية كثيرة بما فيها دول الساحل الإفريقي التي سئمت من فرنسا وأجلت قواعدها العسكرية وتطالبها الان بالتعويض عن ماضيها الاستعماري. يكون كمن دق المسمار في نعش هذا المشروع الذي وفق هذه الاتفاقيات ستكون فرنسا المنبوذة من دول أفريقية كثيرة الآمر الناهي فيه.
كما ان اندفاع المغرب نحو فرنسا بكل ما تضمنه من شراكات واتفاقيات سيضع المغرب في موقع الشريك الغير الموثوق فيه بالنسبة لروسيا ،الحاضرة بقوة في افريقيا والساحل الافريقي اضافة للجزائر، رغم ما يشوب العلاقات الجزائرية الروسية من اختلافات حول بعض القضايا الإقليمية الظرفية . وهو الحضور الذي اعتبرته فرنسا اعتداء روسيا على مناطق نفوذها التاريخية. ودفع بها الى اتخاذ اكثر المواقف تطرفا في الاتحاد الأوروبي والأطلسي تجاه روسيا في الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية وآخرها إرسالها طائرات رافال للجيش الأوكراني و استعدادها لإرسال جنود لمحاربة روسيا والسماح لأوكرانيا باستعمال صواريخها لضرب العمق الروسي .
كما ان هذا الاندفاع نحو فرنسا لا أظنه يعجب كذلك الادارة الامريكية والاسرائيلية التي كانت ترى في اعتراف ترامب بمغربية الصحراء، و انضمام المغرب الى اتفاقية ابراهام كشرط جزائي لهذا الاعتراف، قد يجعل من هذا الأخير شريكا استراتيجيا يعطي لامريكا واسرائيل الأفضلية في الاستثمارات ويمنحها البوابة الشمالية لولوج العمق الإفريقي مع قدرات أكبر للتحكم في مضيق جبل طارق و جنوب أوروبا التي لا ترى فيها الادارة المنتخبة الحالية الممثلة في دونالد ترامب حليفا استراتيجيا كما عودتنا العقلية السياسية الأمريكية الكلاسيكية. ولنا في العقوبات الاقتصادية التي فرضها ترامب على أوروبا في ولايته السابقة خير دليل. دون إغفال ما يصرح به حاليا وخلال حملته الانتخابية من مواقف محابية لروسيا ،ومعارضة للحرب في أوكرانيا ،و مناهضة للسياسات الأوروبية الأطلسية في معالجة هذا الملف.بل مطالبا اياها بتحمل مسؤولياتها في الدفاع عن أمنها بدل الاعتماد على أمريكا . هذا دون إغفال العلاقات المتنامية بينها وبين الجزائر التي يربطها بها اطارا للدفاع الأمني الثنائي، و كذا شراكة اقتصادية وتجارية مهمة يعمل الجانبان على توسيعها ويمكن ان نسرد هنا حجم المبادلات بين البلدين التي بلغت 20 مليار دولار و جعلت من الجزائر الشريك الثاني لأمريكا في العالم العربي .إضافة الى تواجد أكثر من مائة شركة أمريكية على التراب الجزائري تهم مجال الطاقة والمحروقات.
ان سرد هذه المعطيات في السياسة الدولية هو من أجل تقدير حجم الأثر على السياسة الخارجية للمغرب وعلى مشروع المبادرة الاطلسية بعد اندفاعه الأخير نحو فرنسا، القوة التي تعادي علنا روسيا ،ولا تتمتع برضا أمريكا وغير مقبول وجودها من طرف الكثير من دول إفريقيا .
كما ان من صعوبات تحقيق هذا المشروع على أرض الواقع هي الجغرافيا السياسية حيث ان المغرب لا تربطه حدود مع الدول المعنية به .اذ نجد الجزائر الدولة الخصم للمغرب في الشرق ، و موريطانيا في الجنوب الشرقي التي تقف موقف الحياد في الصراع الجزائري المغربي.وربما ترى نفسها جغرافيا أكثر أهلية لهذا المشروع بحكم تمتعها بحدود مشتركة مع دول الساحل .علما انها و على غرار المغرب لها علاقات أمنية واقتصادية قوية مع فرنسا الغير المرغوب فيها المنطقة اضافة الى توتر علاقاتها بمالي على اثر النزاع العسكري الذي وقع على حدودهما المشتركة .
هذا دون إغفال السنغال كدولة مؤهلة أكثر لاستضافة هكذا مشروع خاصة بعد الانتخابات الديموقراطية الأخيرة .وتوجه قيادتها الجديدة إلى فك الارتباط بفرنسا بعد إعلان الرئيس الجديد عن ضرورة مراجعة الاتفاقيات السينيغالية الفرنسية المجحفة في حق مصالح الشعب السنغالي. اضافة الى تقرب القيادة الجديدة في السنغال إلى المشروع الوطني الذي تبنته مجموعة دول الساحل الإفريقي التي تربطها معها وباقي دول الغرب الأفريقي علاقات جيدة وحدود شاسعة خاصة مالي . بالتالي يمكن ان تكون السنغال في ظل الوضع السياسي الذي تشهده منطقة شمال غرب أفريقيا وما يتخللها من تحالفات موزعة على أقطاب دولية متصارعة الدولة الأنسب لاستضافة مشروع المبادرة الأطلسية .
خلاصة القول ان مشروع المبادرة الأطلسية التي قدمها المغرب وتناولها ملك المغرب في خطابه الأخير تعد مبادرة طموحة .لكن شروط تحقق الغايات المنتظرة منها تبدو مستبعدة خاصة في الظرف الراهن الذي يتسم بتعقيدات كثيرة، نظرا للصراعات التي تشهدها العلاقات البينية لدول المنطقة والمرتبطة بتحالفات خارجية لدول مشتبكة في الصراع الدولي الاستراتيجي الحالي . خاصة وأن الدولتين المؤثرتين في منطقة شمال غرب افريقيا، واخص بالذكر المغرب والجزائر، ليست على وفاق، و تكتنف علاقاتهما توترات حادة . علما ان التفاهم الايجابي للدولتين كان سيزيل الكثير من العوائق.وكان سيشكل إضافة عملية لمشروع المبادرة الأطلسية ،و قاطرة حقيقية للتنمية في المنطقة بأسرها .
لكن السؤال المطروح هو متى يدرك الطرفان أن حالة الصراع التي تشهدها علاقة البلدين تفوت على شعوب المنطقة فرصا كثير للرقي والتقدم؟.
د.تدمري عبد الوهاب
طنجة في 24 نونبر 2024