“من معركة التفاهة إلى سؤال الحكامة: قراءة قانونية-تحليلية في خطاب محمد أوزين في سياق مغرب ما بعد 31 أكتوبر”

 ذ. مصطفى صغيري، دكتور في القانون العام والعلوم السياسية.
باحث في الاقتصاد الجديد والتنمية

لم يعد الجدل الدائر اليوم حول واقع الإعلام المغربي ليس مجرد سجال ظرفي بين فاعل سياسي ومنصات إعلامية، ولا يمكن اختزاله في منطق الخصومة الشخصية أو تبادل الاتهامات، كما يحاول البعض تصويره، إن ما نعيشه في العمق هو لحظة كشف جماعي لأزمة بنيوية مستفحلة داخل جزء من المنظومة الإعلامية، أزمة تتجاوز الأشخاص لتلامس جوهر الوظيفة الدستورية للصحافة، وحدود الحرية، ومعنى الدعم العمومي، وأخلاقيات المهنة في علاقتها بالمجتمع والدولة،وفي هذا السياق بالذات، يندرج خطاب محمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، باعتباره خطاب مساءلة سياسية وقانونية، قبل أن يكون خطاب مواجهة، وهو ما يفسر الصدى الواسع الذي لقيه لدى فئات واسعة من الرأي العام المغربي.

فالإعلام، كما استقر عليه الفكر الدستوري الحديث، ليس مجرد نشاط تجاري حر، ولا فضاءً مفتوحًا بلا ضوابط، بل هو مرفق ذو وظيفة اجتماعية، يمارس تأثيرًا مباشرًا على تشكيل الرأي العام، وعلى تمثلات المجتمع لذاته ولمؤسساته، ومن هذا المنطلق، فإن كل نقاش حول الإعلام الممول من المال العام لا يمكن أن يُعزل عن سؤال الحكامة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واحترام القيم الدستورية التي تجعل من كرامة الإنسان، وحماية الحياة الخاصة، وصيانة الذوق العام، عناصر لا تقل أهمية عن حرية التعبير ذاتها.

لقد نجح محمد أوزين، من خلال خطابه، في نقل النقاش من مستوى “من قال ماذا؟”إلى مستوى أعمق وأكثر إزعاجًا، وهو:

 لماذا نسمح، باسم حرية الصحافة، بأن يتحول جزء من الإعلام إلى فضاء للتشهير، والمتاجرة في المآسي، واستغلال الهشاشة الاجتماعية، في الوقت الذي يُموَّل فيه هذا النموذج من ضرائب المواطنين؟

 هذا السؤال، في جوهره، ليس سؤالًا أخلاقيًا فقط، بل هو سؤال قانوني وسياسي بامتياز، لأن المال العام يخضع، في كل التشريعات الحديثة، لمبدأ تخصيصه لتحقيق المنفعة العامة، لا لتكريس الانحراف أو الرداءة.

إن الدعم العمومي للإعلام، كما أُقر في المغرب، لم يكن يومًا غاية في حد ذاته، بل وُضع كآلية انتقالية لتقوية المقاولات الجادة، وضمان التعددية، ومواجهة هشاشة السوق الإشهارية، غير أن ما وقع، في حالات متعددة، هو انقلاب في المنطق، حيث تحوّل الدعم من أداة للتقويم إلى أداة للحماية، ومن وسيلة للنهوض بالجودة إلى ريع مستدام لا يرتبط لا بالمضمون، ولا بالأثر المجتمعي، ولا حتى بالحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي، هنا تحديدًا، تتقاطع مرافعة أوزين مع منطق الدولة الحديثة، لأن أخطر ما يمكن أن تواجهه أي دولة ليس النقد، بل تبديد المال العام دون مساءلة، تحت غطاء شعارات براقة.

وحين يُثار موضوع التفاهة، فإن المقصود بها ليس الاختلاف في الأذواق أو الأساليب، بل نمط تحريري قائم على الإثارة الممنهجة، وعلى تحويل الإنسان إلى موضوع فضائحي، وعلى اختزال المجتمع في صور نمطية مشوهة، هذا النمط لا يولد صدفة، بل يُصنع داخل غرف التحرير، ويُستثمر اقتصاديًا، ويُدافع عنه سياسيًا عندما تُهدد مصالحه، لذلك، فإن وصف هذا النموذج بالتفاهة ليس حكمًا أخلاقيًا عاطفيًا، بل توصيف لوظيفة إعلامية فقدت معناها، وانقلبت من سلطة رقابية إلى أداة ضغط وابتزاز رمزي.

من الناحية الدستورية، لا يوجد أي تعارض بين حرية الصحافة ومساءلة هذا النموذج، فالفصل 28 من الدستور المغربي، وإن كان يضمن حرية الصحافة، فإنه يربطها صراحة باحترام أخلاقيات المهنة، كما أن المواثيق الدولية، التي يستند إليها المدافعون عن الحرية، تميز بوضوح بين النقد المشروع، وبين التشهير، وانتهاك الخصوصية، والتحريض، واستغلال المآسي الإنسانية، وعليه، فإن تحويل كل مساءلة إلى “هجوم على حرية التعبير” ليس سوى استراتيجية دفاعية تهدف إلى الهروب من النقاش الحقيقي.

وفي هذا الإطار، يكتسي نقد محمد أوزين لوضعية المجلس الوطني للصحافة دلالة خاصة، لأنه لا يطعن في مبدأ التنظيم الذاتي، بل في اختلال تنزيله، فالتنظيم الذاتي لا يمكن أن يتحول إلى قلعة مغلقة، ولا إلى آلية لإعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس المصالح، ولا إلى غطاء يمنح الشرعية لمن لا يحترم جوهر المهنة، وعندما تفقد مؤسسة أخلاقية قدرتها على الإقناع، فإن الأزمة لا تكون في الأفراد فقط، بل في النموذج المعتمد وفي طريقة تدبير السلطة داخلها.

إن أخطر ما كشفته هذه المرحلة ليس فقط وجود محتوى متدنٍ، بل وجود مقاومة شرسة لأي محاولة لإعادة ترتيب المشهد، هذه المقاومة هي التي تجعل خطاب أوزين يبدو، في نظر خصومه، مزعجًا وخطيرًا، لأنه يهدد توازنات غير معلنة، ويضع اليد على مناطق ظل ظلّت محصنة لسنوات، لذلك، فإن العنف اللفظي الذي يواجه به هذا الخطاب، ومحاولات شيطنته، لا يمكن فصلها عن شعور بالارتباك وفقدان السيطرة.

أما الجدل المرتبط بدعم الإنتاجات السينمائية، فإنه يفتح بدوره نقاشًا عميقًا حول السياسة الثقافية العمومية، فالدولة، حين تدعم عملًا فنيًا، لا تمارس فعلًا محايدًا، بل تتبنى، ولو ضمنيًا، الرسائل التي يحملها ذلك العمل، ومن حق المجتمع، ومن حق الفاعلين السياسيين، أن يسائلوا المعايير، دون أن يُتهموا بالرقابة أو المحافظة، فالفن الحر لا يتناقض مع النقاش العمومي، بل يتقوى به.

إن ما يعطي لخطاب محمد أوزين قوته اليوم، ليس فقط لغته، بل السياق الذي يُقال فيه، فالمغاربة لم يعودوا ينظرون إلى الإعلام بنفس السذاجة السابقة، وأصبحوا يربطون بين المحتوى الذي يُقدَّم لهم، وبين مصادر تمويله، وبين الأهداف التي يخدمها، وهذا الوعي المتنامي يجعل من الدفاع الأعمى عن التفاهة معركة خاسرة سلفًا، لأن المجتمع، حين يستيقظ، لا يعود بسهولة إلى موقع المتفرج.

في المحصلة، لا يمكن الجزم بأن التفاهة انتهت، لكن المؤكد أن زمن حصانتها المطلقة قد انتهى، لقد دخلنا مرحلة جديدة، عنوانها المساءلة، حتى وإن كانت مؤلمة، ومعارك هذه المرحلة لن تُحسم بالصراخ، ولا بالتخوين، بل بقدرة كل نموذج على تبرير وجوده أمام المجتمع والتاريخ، ومن هذا المنظور، فإن ما يقوم به محمد أوزين ليس خروجًا عن الإجماع، بل مساهمة في بنائه على أسس أكثر صلابة، حيث لا قداسة للرداءة، ولا حماية للريع، ولا شرعية لمحتوى يعيش على إهانة الإنسان.

وفي قراءة أوسع للسياق، لا يمكن فصل هذه المعركة عن التحول العميق الذي أشار إليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حين أكد أن مغرب ما بعد 31 أكتوبر ليس هو مغرب ما قبله. فهذه العبارة، في عمقها، لا تحيل فقط على لحظة زمنية، بل تؤسس لمرحلة جديدة في علاقة الدولة بالمجتمع، قوامها الجدية، والوضوح، ورفض استمرار الأعطاب التي طال أمدها تحت ذرائع مختلفة، إن مغرب ما بعد 31 أكتوبر هو مغرب لا يقبل أن تتحول الحرية إلى غطاء للفوضى، ولا أن يُستعمل المال العام لتكريس الرداءة، ولا أن تبقى قطاعات مؤثرة، كالإعلام والثقافة، خارج منطق المحاسبة بدعوى الحساسية أو الاستثناء.

ومن هذا المنظور، فإن مساءلة التفاهة الإعلامية، ونقد اختلالات الدعم العمومي، لا يشكلان نشازًا في المشهد، بل يندرجان في صلب هذا التحول الذي يدعو إلى دولة أكثر صرامة في الحكامة، وأكثر شجاعة في تسمية الأعطاب، وأوضح في ربط المسؤولية بالمحاسبة، فمغرب ما بعد 31 أكتوبر هو مغرب الانتقال من التدبير بالتواطؤ الصامت إلى التدبير بالمواجهة المؤسساتية، ومن التساهل مع الرداءة إلى مساءلتها، ومن الخوف من النقد إلى اعتباره شرطًا للإصلاح. وعليه، فإن التوجه الذي يحمله هذا النقاش، كما عبّر عنه محمد أوزين، لا يستهدف أشخاصًا ولا مهنًا، بل يصطف بوضوح في صف مغرب الجدية، مغرب يحترم حرية التعبير، لكنه يرفض ابتذالها، ويدعم الإبداع، لكنه يرفض تحويل الدعم إلى ريع، ويؤمن بالإعلام، لكنه يطالب بإعادته إلى وظيفته النبيلة كخدمة عمومية معنوية في صلب البناء الديمقراطي. ذلك هو، في الجوهر، مغرب ما بعد 31 أكتوبر: مغرب لا يُدار بالصمت، ولا يُحمى بالتبرير، بل يُبنى بالمحاسبة والوضوح والمسؤولية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!