علم السياسة في المغرب: تحليل للمسار التاريخي والرهانات المعاصرة

مقدمة
يهدف هذا التحليل إلى تقديم نظرة معمقة على مسار تطور حقل العلوم السياسية في المغرب، مستنداً إلى التشخيص الذي قدمه الخبير الاستاذ عبد الله ساعف. من خلال تفكيك المراحل التاريخية التي مر بها الحقل منذ تأسيسه، وتحديد التيارات البحثية السائدة فيه، واستعراض النقاشات الفكرية الكبرى التي شكلت هويته، نسعى لفهم بنيته الحالية وتحدياته المستقبلية.
استعرض الاستاذ عبدالله للمسار التاريخي لبناء الحقل، ثم تنتقل إلى تحليل المواضيع المهيمنة على الإنتاج المعرفي، لتغوص بعدها في أزمة الهوية المعرفية والصراعات التأسيسية التي واجهته. وأخيراً، سيتناول التحليل المفارقة المعاصرة التي يعيشها الحقل بين النهضة الأكاديمية والانحدار السياسي، وصولاً إلى استكشاف مسؤولية عالم السياسة في هذا السياق المعقد.
1. المسار التاريخي وبناء الحقل: من التأسيس إلى الحاجة لدراسة شاملة
إن فهم الوضع الراهن لعلم السياسة في المغرب يقتضي تتبع مساره التاريخي التراكمي منذ استقلال البلاد سنة 1956، ورصد تطور بنيته المؤسسية والأكاديمية. في بداياته، كان الإنتاج المعرفي حول السياسة المغربية حكراً على الباحثين الأجانب، خاصة الفرنسيين والأمريكيين، الذين وضعوا اللبنات الأولى للأدبيات في هذا المجال.
وقد تميز مسار هذا الحقل بديناميكية متغيرة، انعكست في التشخيصات الدورية التي قُدمت له كل عشر سنوات تقريباً، فمنذ التشخيص الأول في الثمانينات، مروراً بتقييم التسعينات، وصولاً إلى التحليلات الحديثة، كان المشهد الأكاديمي يتغير باستمرار، مما يعكس حيوية الحقل وتفاعله مع محيطه.
أمام هذا التراكم والتوسع، تبرز اليوم حاجة ماسة إلى دراسة “بيبليومترية” أو “مونوغرافية” حديثة وشاملة، ترصد ما تم إنجازه وتُقيّم طبيعة الإنتاج المعرفي، على غرار الدراسة الشمولية التي أُنجزت في التسعينات بإشراف “السي مقداد” والتي تضمنت إحصائيات ونسباً مئوية. وتعود هذه الحاجة اليوم إلى عدة أسباب جوهرية:
• التوسع المؤسسي: الزيادة الكبيرة في عدد الجامعات المغربية (14 جامعة أو أكثر)، مما وسع من دائرة البحث والتدريس.
• نمو القطاع الخاص: ظهور لافت لشعب وبرامج علم السياسة في مؤسسات التعليم العالي الخاصة، مما أضاف فاعلين جدداً إلى الحقل.
• تزايد عدد الباحثين: تغيرت المعطيات المتعلقة بالباحثين المنتمين حصراً للحقل، سواء من حيث العدد أو التنوع في التكوين والاهتمامات.
• تراكم الإنتاج المعرفي: أصبحت هناك ضرورة ملحة لجرد وتحليل الأدبيات والمواضيع التي تمت دراستها، وطرق معالجتها، ورصد التحولات في الأجندة البحثية.
إن هذا الإنتاج المعرفي المتراكم لم يكن عشوائياً، بل هيمنت عليه تيارات ومواضيع بحثية محددة شكلت ملامحه الأساسية.
2. التيارات البحثية والمواضيع المهيمنة: مرآة لتطور الحقل وانشغالاته
يُعتبر تحليل طبيعة المواضيع البحثية السائدة المدخل الأساسي لفهم كيفية تشكل حقل العلوم السياسية وتحديد أولوياته المعرفية وتفاعله مع السياق الوطني والعالمي. ويمكن تصنيف الاتجاهات البحثية الرئيسية التي هيمنت على الحقل في مراحل مختلفة كما يلي:
1. المواضيع “الرسمية” والوطنية: يلاحظ أن جزءاً كبيراً من الأبحاث يتجه نحو المواضيع التي تفرضها الأجندة الرسمية للدولة، مثل الانتخابات، التعديلات الدستورية، والخطابات الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، تحظى القضايا الوطنية الكبرى، وعلى رأسها الوحدة الترابية، باهتمام مركزي. هذا التوجه يكشف عن علاقة وثيقة بين أجندة البحث الأكاديمي وأولويات السلطة السياسية في المغرب.
2. “الزوايا الميتة”: يُقصد بهذا المفهوم المواضيع غير المألوفة التي لا تحظى باهتمام كبير في البداية، لكنها تكشف عن جوانب عميقة من الواقع المغربي، كالدراسات حول ثقافة مشجعي كرة القدم أو أشكال الاحتجاج غير التقليدية. ورغم أهميتها، إلا أن حضورها يبقى محدوداً.
3. الموجات العالمية والهروب من المحلي: تأثر البحث العلمي في المغرب بالتيارات العالمية (الثقافة الرقمية، الإيكولوجيا). ويرتبط هذا التوجه جزئياً بنزعة لوحظت في دول عربية أخرى تتمثل في التركيز على العلاقات الدولية كشكل من “الهروب” من معالجة القضايا السياسية الداخلية الحساسة. ويكمن الخطر الذي يلمح إليه هذا التشخيص في أن هذا التوجه قد يؤدي إلى شكل من أشكال “السكوت الأكاديمي” الذي يتجنب المواجهة النقدية للمسائل السياسية المحلية الشائكة.
4. المواضيع الحديثة (مرحلة ما بعد الوباء): برزت في السنوات الأخيرة رزمة جديدة من الاهتمامات البحثية، مدفوعة بأحداث كبرى، شملت دراسات حول تأثير وباء كوفيد-19، الكوارث الطبيعية، عودة مفهوم الدولة القوية، والسياسات العمومية الاجتماعية. في المقابل، لوحظ تراجع واضح في الاهتمام بموضوع “الانتقال الديمقراطي”.
ورغم هذا التنوع، لا تزال هناك فجوات بحثية مهمة تحتاج إلى اهتمام أكبر، كما يوضح الجدول التالي:
| المجالات ذات الحضور البحثي المحدود | الأهمية المحتملة |
| الخريطة الاجتماعية وتأثيرها السياسي | فهم التغيرات العميقة في المجتمع (الطبقات الوسطى، الأسرة، الشباب، المرأة) استناداً إلى بيانات الإحصاء الجديدة. |
| الديناميات والجدليات السياسية الداخلية | الكشف عن آليات الصراع والتفاعل الحقيقية التي تخترق المجتمع المغربي بعيداً عن المواضيع التقنية والمجردة. |
إن هذا المشهد الموضوعاتي، بتركيزه على الرسمي وتجنبه لبعض الديناميات الداخلية، لم ينشأ في فراغ، بل هو مرتبط بشكل وثيق بصراع الحقل المستمر من أجل تحديد هويته وحدوده المعرفية.
3. أزمة الهوية المعرفية والصراعات الفكرية الكبرى
لم يكن بناء حقل علم السياسة في المغرب عملية سلسة، بل كان مصحوباً بتحديات عميقة تتعلق بـ**”الترسيم المعرفي” (epistemological demarcation)**، أي صراع الحقل لتحديد موضوعه ومنهجه وحدوده الفريدة في مواجهة التخصصات المجاورة. وقد واجه صعوبات في تحديد هويته التخصصية، تمثلت في:
• مع التاريخ: برز التحدي في التمييز بين منظوريهما؛ فعلم السياسة يتخذ من السلطة موضوعه المركزي، بينما يتخذ التاريخ من الزمن مبدأه المنظم.
• مع علم الاجتماع والفلسفة السياسية: كان على علم السياسة توضيح خصوصية مقاربته لظواهر مشتركة كالاحتجاجات، مع الحفاظ على علاقة قوية ومعقدة مع الفلسفة السياسية.
• مع اللسانيات: تم التأكيد على أن تحليل الخطاب السياسي لا يقتصر على إحصاء الكلمات، بل يركز على الدلالات وعلاقتها بآليات إنتاج السلطة.
إلى جانب هذه التحديات، اخترقت الحقل صراعات فكرية تأسيسية تعتبر جزءاً لا يتجزأ من تاريخه:
• الصراع بين العام والمحلي: لم يكن هذا مجرد اختلاف في المواضيع، بل كان نقاشاً معرفياً عميقاً حول مستوى التحليل الأنسب لإنتاج معرفة صحيحة عن الدولة. تجسد في التجاذب بين التوجه نحو المفاهيم الكبرى والمجردة (“الدولة” عند العروي والجابري) والتوجه نحو الدراسات الميدانية الملموسة (“الدولة في دكالة” عند بول باسكون).
• الصراع بين الكمي والنوعي: يُعتبر هذا النقاش المهيمن حالياً صراعاً حول طبيعة الحقيقة السياسية ذاتها. فالتيار النوعي (المتأثر بليو شتراوس) يرى ثبات طبيعة السياسة عبر الزمن، وأن فهمها يقتضي العودة للنصوص الفلسفية الخالدة. في المقابل، يركز التيار الكمي على أن الحقيقة تكمن في البيانات والإحصاءات الدقيقة القابلة للتحقق. واليوم، يتزايد الإجماع حول أن البحث الأمثل هو الذي يمزج بين المقاربتين.
• صراع الانحياز العلمي مقابل الحياد السياسي: هذا النقاش الكلاسيكي (الذي يعود إلى ماكس فيبر) لم يكن مجرد نقاش نظري، بل كان صراعاً حياً وملموساً داخل الكليات بين أساتذة ينتمون لأحزاب سياسية (كالاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، التقدم والاشتراكية) وآخرين يعتبرون أن عدم الانتماء شرط للموضوعية. طرح النقاش مسألة ما إذا كان الانتماء الحزبي يتعارض مع العلمية، في مقابل فكرة فيبر عن ضرورة “التعاطف” (l’empathie) مع موضوع الدراسة لفهمه بعمق.
إن هذه النقاشات التأسيسية حول هوية الحقل ومناهجه توفر السياق الضروري لفهم الوضعية المحيرة التي يواجهها اليوم: طفرة في شعبيته الأكاديمية تحدث في الوقت الذي يبدو فيه أن موضوعه الأساسي —السياسة— في تراجع عام.
4. المفارقة المعاصرة: نهضة أكاديمية في سياق انحدار سياسي
يعيش حقل علم السياسة في المغرب اليوم مفارقة مركزية: تناقض صارخ بين ازدهاره الأكاديمي الملحوظ والتراجع المتصور لمكانة السياسة في المجتمع. فكيف نفسر هذا الإقبال الأكاديمي على حقل تتقلص أهميته في الفضاء العام؟
تتجلى أبعاد هذه “النهضة الأكاديمية” في عدة مظاهر:
• إقبال الشباب: اهتمام متزايد من الطلاب، حتى من ذوي الخلفيات العلمية البحتة (رياضيات، فيزياء)، باختيار تخصص علم السياسة.
• الدوافع المهنية: يرتبط هذا الإقبال بتطلعات مهنية واضحة، حيث يُنظر إلى التخصص كبوابة للعمل في السلك الدبلوماسي أو المنظمات الدولية.
• التوسع المؤسسي: انتشار برامج علم السياسة في الجامعات الجديدة والقطاع الخاص استجابةً للطلب المتزايد.
في المقابل، تأتي هذه النهضة في سياق “انحدار سياسي”، حيث “انحدرت” السياسة، التي كانت تحتل مركز المجتمع، “نحو الهوامش”، وأصبحت تلعب في “قسم الهواة”.
تضيف إشكالية الخلط بين الخطاب العلمي والخطاب العام بعداً آخر لهذه المفارقة. فغالباً ما يؤدي عدم التمييز بين تحليل عالم السياسة ورأي المواطن العادي إلى سوء فهم لدى الفاعلين السياسيين. إن مسؤولية المتخصص تكمن في تقديم “إضافة معرفية”، أي تحليل يستند إلى منهجية وإطار مفاهيمي وأدلة تُميزه عن الرأي المتداول. فكما حذر سمير أمين، يكمن الخطر في تحول علم السياسة إلى مجرد “ممارسة صحفية”. إن تقديم هذه القيمة المضافة ليس خياراً، بل هو جوهر مهمة الباحث؛ “هذه هي خدمتنا”.
هذا السياق المعقد يطرح سؤالاً جوهرياً حول دور ومسؤولية عالم السياسة اليوم.
5. الخاتمة: مسؤولية عالم السياسة بين الالتزام الوجودي والرهان المجتمعي
لقد استعرض هذا التحليل المسار التاريخي لعلم السياسة في المغرب، وتياراته البحثية، وصراعاته المعرفية، وصولاً إلى المفارقة التي يعيشها بين نهضته الأكاديمية وتراجع مكانة السياسة. في ختام هذا المسار، تبرز قضية “مسؤولية” عالم السياسة كرهان أساسي.
يمكن الاسترشاد بحكاية مكيافيلي ورسالته الشهيرة للتأمل في المعنى العميق لاختيار دراسة السياسة. ففي تلك الرسالة، يعبر مكيافيلي عن استثمار ذاتي ووجودي، حيث تصبح الحياة بدون السياسة فاقدة للمعنى. هذا الشغف ليس مجرد اهتمام أكاديمي، بل هو قرار وجودي يحدد هوية الباحث ويربطه بتاريخه.
من هذا المنطلق، فإن مسؤولية عالم السياسة المعاصر في المغرب ذات طابع مزدوج:
• مسؤولية ذاتية وتاريخية: إن اختيار دراسة السياسة ليس مجرد خيار مهني، بل هو قرار وجودي يحمل في طياته التزاماً عميقاً تجاه فهم آليات السلطة وديناميكيات المجتمع.
• مسؤولية مجتمعية: الهدف الأسمى من المعرفة السياسية ليس إنتاج أبحاث حبيسة الرفوف، بل تمكين المجتمع من فهم نفسه بشكل أفضل، وبالتالي منحه الأدوات المعرفية اللازمة لـ “السيطرة أكثر على مساره”.
في نهاية المطاف، تكمن القيمة النهائية للحقل في قدرته على إنتاج “معرفة نقدية” حول المجتمع والدولة. ويمثل تطور علم السياسة في المغرب محطة مهمة في سبيل تحقيق هذا الهدف، ويبقى النقاش مفتوحاً حول قدرته على تجاوز مفارقاته الحالية للمساهمة بفعالية أكبر في فهم وتوجيه التحولات التي يعيشها المغرب.








