الخطاب الملكي وترسيخ العدالة الاجتماعية والمجالية: رؤية ملكية تتقاطع مع المشروع الاتحادي التقدمي

 بقلم النائب البرلماني الدكتور عمر اعنان

الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية الحادية عشرة، جاء ليجدد الثقة في المؤسسات، ويعيد توجيه البوصلة الوطنية نحو ما هو جوهري في مشروع الدولة المغربية الحديثة: العدالة الاجتماعية والمجالية، الجدية في العمل، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

فهو خطاب يتجاوز الإطار الظرفي، ليقدم رؤية متقدمة لمغرب يسوده العدل، والكرامة، والمساواة، وتكافؤ الفرص، ويؤسس لمسار جديد من الإصلاح المتوازن والمواطنة الفاعلة.

وبصفتي مناضلًا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أرى أن مضامين هذا الخطاب تتقاطع بعمق مع جوهر المشروع الاتحادي التقدمي، الذي جعل من العدالة الاجتماعية والمجالية، ومن دولة المؤسسات، ومن خدمة المواطن، أعمدة لبناء مغرب حديث وديمقراطي.

إنها دعوة ملكية صادقة إلى كل القوى الوطنية، وفي مقدمتها حزبنا، لمواصلة النضال والعمل المشترك بروح الجدية والمسؤولية، من أجل مغرب متجدد، قوي بمؤسساته، متماسك بعدالته، ومنفتح على مستقبله بثقة وإيمان.

البرلمان في صلب الثقة الملكية ودعوة لتعزيز دولة المؤسسات

عبّر جلالة الملك في مستهل خطابه عن تقديره لعمل البرلمان في مجال التشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية، وهي إشارة ملكية واضحة إلى أهمية المضي قدمًا في ترسيخ دور المؤسسات الدستورية.

هذا التقدير الملكي يكرس ثقافة الاعتراف بالعمل الجاد، ويؤكد أن المؤسسات القوية هي أساس الديمقراطية الحقيقية.

وحزب الاتحاد الاشتراكي كان دائمًا في طليعة المدافعين عن تعزيز العمل البرلماني وتطوير أدائه، معتبرًا أن المؤسسة التشريعية ليست مجرد فضاء للنقاش، بل أداة للإصلاح وصون التوازن بين السلط.

وقد برهن الفريق الاشتراكي، خلال السنوات الأربع الماضية، عن جديته وإنتاجيته العالية، إذ ساهم بما يقارب 40% من مجموع الإنتاج التشريعي والرقابي لمجلس النواب، وهو رقم يعكس روح المسؤولية والمثابرة الاتحادية في الدفاع عن المصلحة العامة، وتجويد السياسات العمومية، وربط التشريع بالعدالة الاجتماعية والمواطنة.

الدبلوماسية البرلمانية والحزبية… وريادة اتحادية تاريخية

من بين المحاور البارزة في الخطاب الملكي، الإشادة بالدبلوماسية البرلمانية والحزبية ودورها في خدمة القضايا الوطنية الكبرى، ودعوة جلالته إلى مزيد من الفعالية والتكامل مع الدبلوماسية الرسمية.

وهنا تبرز بوضوح الريادة التاريخية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في هذا المجال، باعتباره من أوائل الأحزاب التي تبنت مفهوم “الدبلوماسية الموازية” كأداة دفاع عن القيم الوطنية والإنسانية في المحافل الدولية.

لقد ساهم الحزب عبر مناضليه ووفوده في تعزيز صورة المغرب الديمقراطي المنفتح، ودافع باقتناع عن قضية الوحدة الترابية للمملكة داخل المنتديات الاشتراكية والبرلمانية العالمية، مؤكدًا أن الوطنية الحقة تُمارس بالفعل الدبلوماسي الرصين والمسؤول.

إن ما دعا إليه جلالته اليوم هو استمرار لنهج طالما جسده حزبنا في الميدان، من خلال خطاب وحدوي، تقدمي، ومنفتح على العالم.

دعوة إلى الجدية والمسؤولية في السنة التشريعية الأخيرة

دعا جلالة الملك أعضاء البرلمان إلى جعل السنة الأخيرة من الولاية التشريعية محطة للجدية والعطاء، واستثمارها في استكمال المشاريع المفتوحة، بعيدًا عن منطق الانتظارية أو الحسابات الانتخابية.

وهذه الدعوة، في جوهرها، تلامس عمق الموقف الاتحادي من الممارسة السياسية، الذي يرى أن النائب أو المسؤول العمومي ليس مجرد ممثل عن دائرة انتخابية، بل حامل لأمانة وطنية.

لقد نادى حزب الاتحاد الاشتراكي مرارًا بضرورة إعادة الاعتبار للأخلاق السياسية، وربط المسؤولية بالنتائج، وهو ما يعكس روح التوجيه الملكي نحو أداء مؤسساتي منتج يضع الوطن فوق كل اعتبار.

تكامل المشاريع الكبرى مع البرامج الاجتماعية: رؤية شمولية

أكد جلالة الملك أن المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية ليست مجالات متنافرة، بل متكاملة ضمن رؤية موحدة هدفها خدمة المواطن وتحقيق التنمية الشاملة.

وهذا التوجه يتطابق تمامًا مع فلسفة المشروع الاتحادي، الذي جعل من التوازن بين الاقتصاد المنتج والعدالة الاجتماعية أساسًا لأي نموذج تنموي ناجح.

فالاستثمار في الإنسان، عبر التعليم، والتكوين، والحماية الاجتماعية، هو الشرط الحقيقي لبناء مغرب متقدم يزاوج بين النمو والإنصاف.

وقد دافع الاتحاد الاشتراكي طيلة تاريخه عن هذا التلازم، باعتبار أن التنمية ليست أرقامًا مالية، بل تحسين ملموس في حياة الناس.

التأطير والتواصل… مسؤولية جماعية

ذكّر جلالة الملك بدور الأحزاب السياسية، والإعلام، والمجتمع المدني في تأطير المواطنين والتواصل معهم، وتعريفهم بالقوانين والمبادرات العمومية التي تمس حياتهم اليومية.

وهذه الدعوة تنسجم كليًا مع ما يعتبره حزبنا من وظيفة جوهرية للعمل الحزبي: تكوين المواطن وتوعيته وتمكينه من أدوات المشاركة.

فالعمل السياسي في نظر الاتحاد ليس تنافسًا انتخابيًا فحسب، بل رسالة تثقيف وتنوير وتعبئة جماعية من أجل الارتقاء بالوعي الديمقراطي.

ومن هنا، فإن النداء الملكي يعيد الاعتبار لمفهوم “السياسة النبيلة” التي ظل حزب الاتحاد الاشتراكي يدافع عنها في وجه الشعبوية والسطحية السياسية.

العدالة الاجتماعية والمجالية… القلب النابض للنموذج الاتحادي

أكد جلالة الملك أن العدالة الاجتماعية والمجالية ليست شعارًا ظرفيًا، بل خيار استراتيجي للدولة المغربية.

ودعا إلى ضمان التوازن بين الجهات، وتوجيه الاستثمارات نحو المناطق الهشة، مع اعتماد الرقمنة والحكامة في تنفيذ البرامج.

وهذا المحور هو الجوهر الحقيقي للمشروع الاتحادي منذ تأسيس الحزب، الذي ناضل من أجل مغرب متوازن ومنصف يضمن تكافؤ الفرص بين المواطنين في المدن والقرى، في الجبال والواحات، على طول التراب الوطني.

لقد طالما شدد الاتحاد على أن تحقيق العدالة المجالية هو الطريق الأضمن لترسيخ الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وهو ما أكده جلالته بوضوح في دعوته إلى سياسات عمومية أكثر إنصافًا وفعالية.

رعاية المناطق الجبلية والواحات… استحضار للمغرب العميق

من أبرز نقاط الخطاب، توجيه جلالته للاهتمام بالمناطق الجبلية والواحات التي تمثل 30% من التراب الوطني، وضمان إدماجها في الدورة التنموية الوطنية.

وهذه الدعوة تلامس عن قرب انشغالات حزب الاتحاد الاشتراكي الذي لطالما طالب بإنصاف هذه الجهات وإعادة توزيع الاستثمارات على أساس العدالة المجالية.

فالواحات، على سبيل المثال، تشكل خزّانًا تراثيًا واقتصاديًا وثقافيًا، لكنها تعاني التهميش ونقص البنيات، وهو ما تنبّه إليه الحزب في تقاريره ومذكراته البرلمانية منذ سنوات، مؤكدًا أن المغرب لا يكتمل إلا بعدالة تشمل كل جهاته.

التنمية الساحلية والاقتصاد الأزرق… بعد بيئي حداثي

أشار جلالة الملك إلى ضرورة التفعيل الأمثل لمخطط السواحل والتنمية المستدامة للمناطق البحرية، بما يحفظ البيئة ويعزز الاقتصاد الأزرق.

وهذا البعد البيئي الحداثي يمثل أحد فصول النضال الاتحادي المعاصر، الذي وضع حماية البيئة والموارد الطبيعية في صلب سياساته، إيمانًا بأن العدالة المناخية هي وجه آخر للعدالة الاجتماعية.

فالاشتراكية الديمقراطية كما نراها اليوم، لم تعد فقط مسألة توزيع للثروة، بل حماية للأرض والماء والهواء كحقوق للأجيال القادمة.

تنمية المراكز القروية الناشئة… مقاربة اتحادية راسخة

ضمن الخطاب أيضًا، دعوة إلى توسيع تجربة المراكز القروية الناشئة لتقريب الخدمات وتحقيق التوازن بين المدينة والقرية.

وهذه الفكرة تلتقي تمامًا مع مقاربة الاتحاد الاشتراكي للتنمية القروية، التي تعتبر أن اللامركزية والتجهيز القروي أساس التنمية الشاملة.

فالمغرب المتوازن لا يُبنى بالعواصم وحدها، بل بمدن صغيرة نابضة بالحياة، تحتضن فرص الشغل والتعليم والصحة في بيئة كريمة.

التشغيل والتعليم والصحة… ثلاثية العدالة الاجتماعية

ركز جلالة الملك على توفير فرص الشغل للشباب، والنهوض بالتعليم والصحة باعتبارها مفاتيح الاستقرار الاجتماعي.

وهذه الثلاثية هي لبّ المشروع المجتمعي الاتحادي، الذي ناضل من أجلها الحزب في كل المحطات السياسية والنقابية والتشريعية.

إنها نفس المطالب التي عبّر عنها جيل الشباب الجديد، وخاصة جيل “Z”، في تعبيراته الاحتجاجية الأخيرة، مطالِبًا بالكرامة، والفرص، والأمل.

وحزب الاتحاد الاشتراكي يرى في هذه المطالب صوتًا وطنيًا صادقًا يجب أن يجد صداه في السياسات العمومية عبر التشغيل المنتج، وتعليم نوعي، وصحة متاحة للجميع.

دعوة سامية إلى الإخلاص وربط المسؤولية بالمحاسبة

اختتم جلالة الملك خطابه بالآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.” وهي دعوة صريحة للعمل بالجد والإخلاص، وتذكير عميق بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي يشكل أحد أعمدة الفكر الاتحادي الحديث. إنها رسالة أخلاقية راقية تدعونا جميعًا، مسؤولين ومنتخبين ومناضلين، إلى أداء مهامنا بروح المواطنة والمسؤولية، في خدمة الوطن والمواطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!