يونس مجاهد: المثقف في الفضاء العام

تثار باستمرار تساؤلات عن تراجع دور المثقفين في المجتمع، اليوم، وتتم مقارنة الوضع الحالي، بالسنوات السابقة، التي كان فيها للنخبة المثقفة حضورا أكثر وزنا، وهي تساؤلات مشروعة، تطرح لاستنكار الكم الهائل من التفاهة والضحالة التي تطفو على السطح، وتزحف باستمرار على الفضاء العام، سواء في السياسة أو الإعلام أو الثقافة والفن.

ورغم أن هذا الوضع تتقاسمه كل المجتمعات، بفعل التأثيرات السلبية لثورة تكنولوجيا التواصل الحديثة، إلا أن هناك تفاوتا في هذا التأثير، إذ أن مجتمعات ما يسمى بالعالم الثالث، تضررت أكثر من غيرها، نظرا لضعف مناعتها الثقافية والسياسية، حيث انتشرت فيها التفاهة، بشكل أسرع وأقوى، من غيرها، وسادت فيها المضامين السطحية والإثارة الرخيصة في استعمالها لهذه التكنولوجيات، ووجدت تجاوبا وقبولا من طرف فئات واسعة من المجتمع.

وفي المغرب، الذي يعيش مثله مثل باقي المجتمعات، على إيقاع هذه التطورات السلبية، تتعالى باستمرار أصوات للتنبيه إلى خطورة التراجع الذي يتكرس باستمرار لدور المثقفين، ومن هذه الأصوات من ينحو باللائمة على النخبة المثقفة متهما إياها بالانكماش والابتعاد عن ساحة النقاش العام، وتركها في يد التافهين، الذين يملؤون الدنيا بالضجيج الفارغ.

غير أن هذه الانتقادات ينبغي أن توضع في إطارها الصحيح، فالمثقف الذي كان في السابق، أكثر حضورا، في المجتمع، كانت تتوفر له شروط المساهمة أكثر مما هو عليه الوضع حاليا، حيث كانت هناك العديد من المؤسسات، مثل الصحافة الورقية والجامعات والأحزاب السياسية والجمعيات والأندية والإنتاج الفني… أكثر تأثيرا وانفتاحا على النخبة المثقفة، التي كان المجتمع في المجال الحضري، خصوصا، يتجاوب معها ويحترمها.

لا يمكن أن نحمل مسؤولية التراجع الحاصل اليوم، لهذه النخبة، التي مازالت موجودة ومازالت تنتج في مختلف الميادين، بل ينبغي التساؤل عن وظائف عدة مؤسسات، من بينها الإعلام العمومي، الذي من المفترض فيه أن يقدم للمجتمع منتوجا راقيا، في الثقافة والفن، وأن يكون فضاء النقاش السياسي بامتياز، في إطار مسؤوليته كمرفق عام، وأن يفتح محطاته وقنواته لهذه النخبة، بدل أن يتحول إلى إطار يساير التفاهة والضحالة الزاحفة. وفي الدرجة الثانية تقع المسؤولية، أيضا، على الصحافة والإعلام، في القطاع الخاص، الذي وإن كان غير عمومي، فإن من المفترض فيه أن يشتغل للصالح العام.

لذلك، لا يمكن أن نتحدث عن تقصير المثقفين في القيام بدورهم المجتمعي، في الوقت الذي تنغلق أمامهم مثل هذه المؤسسات، وفي الوقت الذي تسود في الأحزاب السياسية، قيم جديدة، نتيجة الممارسات الانتخابية، التي أصبحت، أكثر من أي وقت مضى، تعتمد على توزيع المال والمنافع والعلاقات الزبونية، وتهمش التنافس الشريف، الأمر الذي انعكس بوضوح على المجالس المنتخبة، ليس في التجربة الحالية، فحسب، بل في سابقاتها، أيضا، والتي تم تكريسها بشبكات الخير والإحسان.

في تجارب البلدان الديمقراطية، المتقدمة في العلم والثقافة والسياسة، تلعب الجماعات المنتخبة، من مجالس بلدية وغيرها، أدوارا رئيسية في تنمية الثقافة والفكر والنقاش العام، يتم إحداث المكتبات العمومية، وتبنى المسارح، ويشجع الإنتاج الثقافي والفني، وتوضع برامج للرفع من وعي الساكنة، لأن مهمة هذه المجالس ليست محصورة، فقط، في القيام بالأشغال العمومية وتنظيف وتجميل الفضاءات وضمان النقل العمومي، بل أيضا التربية وتوفير شروط تطوير ثقافة وذوق ووعي المجتمع، لأنها تعتبر أنه يتشكل من بشر، يحتاج أيضا إلى تنمية العقل والحس.

في مثل هذه الظروف يمكن أن تزدهر النخبة المثقفة والفنانون المبدعون، ويظل حضورهم وازنا في المجتمع، لأن هناك سياسة عمومية، تساهم فيها مؤسسات الدولة والإعلام والصحافة والجامعة والأحزاب والمجالس المنتخبة والجمعيات، هدفها الرفع من وعي الشعوب، وإعلاء شأن الفكر والثقافة والإبداع، وليس نشر التفاهة وتسليع الذوق والقيم.

لقد أصبحت هذه المعركة أصعب من السابق، لأن تكنولوجيات التواصل، فتحت الأبواب على مصراعيها لإفساد الأذواق وتسطيح الأفكار وتعميم القيم الرخيصة، وسهّلت الأمر لمن يسعى إلى تدمير وعي الشعوب، لذا فإن أدوار النخب المثقفة ستكون مطلوبة أكثر لمواجهة هذا الزحف الخطير، ويمكن أن تكون الوسائل التي توفرها ثورة التواصل فرصة ذهبية، لاستعمالها بشكل أكثر إيجابية، وهي المهمة التي لا يمكن للمثقف ان يقوم بها تلقائيا، إلا بشكل محدود، بل ينبغي أن تقوم المؤسسات بهذه الوظائف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!