رسالة من مكان مألوف في الجحيم… من غزّة
عبد الحميد اجماهيري

عبد الحميد اجماهيري
26 اغسطس 2025
لم تصل رسائل من القيامة من قبل، وإن وصلت فإشارات دينية عمَّا سيقع، حملتها الرسالات السماوية وبشَّر بها الأنبياء. لكن غزّة، اليوم بعد الوصول إلى خطّ الوحشية النهائي، أصبحت “بروفة”، وتمريناً على ما يمكن أن تكون عليه الإقامة في ”الما بعد”. من هناك يصبح التحليل العاقل والموضوعي شبه تمرين على الحزن المضاعف، والعجز المزدوج. واللغة ذاتها تترك ما فيها من احتمالات لكي تزهر الفِكَر، وتميل إلى ما قبلها: الصمت الميتافيزيقي الذي يليق بالموتى.
لهذا نصمت، كي نسمع صوتاً قادماً من القيامة، بعد أن وصلت إلينا حشرجات الواقفين على شفا العدم تعتصرهم المجاعة (هكذا قالت الأمم المتحدة) وعجزُنا. نحن الذين نعرف قاموس النكبة، والهزيمة، والنكسة، والنزوح، مثلما نعرف أصابع اليد، عجزنا عن تفكيك هيروغليفية الأقدار في وصف المجاعة التي تصيب الشرق الأوسط للمرّة الأولى.
لا حاجة لإبادة البشرية كلها، يكفي إبادة طفل واحد تحت أنظار العواصم لتكون إبادة جامعة
فيا شعب الجبَّارين… آن لنا أن نشعر بالمهانة، بعد أن لم تهزمكم مليون قذيفة، ولا ألف صاروخ، وهزمكم رغيف. ونقرأ الرسالة القادمة من أهل غزّة اليوم. نكتب لكم من اليوم الخامس والستّين بعد المائتين في تقويم القيامة، من مكان مألوف في الجحيم، من غزّة.
لا نراود الأمل ولا نتوسّله. نحن هنا في حاجة إلى ما هو قريبٌ من الجنون، لكي لا نتيقّن بأن الذي يقع يقع فعلاً. لا ننتظر الأمل. أيها العالم، لِأمرٍ بسيط، لم يعثر علينا الأمل بعدُ وسط الأنقاض، بعد أن أتعبتنا البطولة. الآن فقط يمكن أن تشعروا بالمهانة، بعد أن أصبح الموتُ جائعاً يقتات من الموتى… جوعاً. الآن فقط يمكن أن تشعروا بالمهانة: لم تهزمنا مليون قذيفة،
ولا آلاف الصواريخ… وهزمنا رغيف. ننتظر أن نسمع صوتاً يقول إن هذا أقسى (وأقصى) ما يفعله الشيطان بنا في درك الجحيم. الربّ الرحيم لا يفعل هذا. أيُّ ربّ شرّير من وراء ظهره يرأس حفلات العذاب؟
أيها العالم! الأمر بسيط، لم يعثر علينا الأمل بعدُ وسط الأنقاض. ربّما لم تعُد لنا أجساد، ربّما لنا أجساد يراها الآخرون لكن لا وظيفة لها لدينا سوى أن تصير أرشيف آلام البشرية لديهم. كيف نضرب موعداً للموت ونحن بلا زمان، تطلع علينا الشمس كما تطلع كل يوم بلا أيام نسمّيها، بلا أسماء نعطيها للوقت. هنا النهار مليء بالليل، والأمل بلا هالة الخوف، وفزع الرُّضَّع نابع من الفؤاد نفسه سرعان ما يسقط في الابتذال. اليأس هنا علامة الحياة الأكثر جدارة من الأمل، بل هو فعل حبّ نحتاجه لنكون. إنه يعني لنا الحرية في أن نحاكم العالم. براءتنا تبدو لكم مقلقة، مقرفة حتى… مثل فعل البستنة تحت وابل من الجليد. ولكننا في قلب هذا الظلام لا نملك سوى عيوننا الملأى بالنجوم، نرى الملائكة طرائد مدماة تترنّح وهي هاربة. هنا أطفالنا الرضّع يرثون الموت عند ولادتهم. فيا ضمير العالم! متى ترقى إلى حفنة أرز؟ أيها الضمير أنت الذي تحابي القاتل: هل تعرف أن كليكما يتعرف إلى الآخر عن انحطاطه الشخصي؟ لا حاجة لك لإبادة البشرية كلها، لتستيقظ أو لتنام، لا فرق. تكفي إبادة طفل واحد تحت أنظار العواصم لتكون إبادةً جامعة.
“اليأس فعل حبّ نحتاجه لنكون، والحرية أن نحاكم العالم
هنا من مكانٍ مألوفٍ في الجحيم… من غزّة، أطفال تيبَّست أطرافهم، رُضّع فجّرت أجسادهم، سيقضون الأبدية كلّها في البحث عن جثتهم، لكي يُبعثوا من جديد… يا إلهي! كيف سيدخلون الجنّة؟ كانوا هنا، نسمع الخرير النضَّاخ في أصواتهم، تجري تحت ألسنتهم الأنهار، لكنّ الجوع التهم حناجرهم.
يا أيها العالم! البريق الذي تراه يشبه زهرتين طار عنهما الندى، وهو ما علق من نظرات طفلةٍ إلى فردَتي حذائها وهي تحلم بخطوات إلى حديقة. الوردتان المدهامتان من تحت الأنقاض.
يا أيها العالم! نكتب إليك من مكان مألوف في الجحيم… من غزّة. ومن زمن بلا تقويم، زمن القيامة… نُربّي ما يليق بنا في العدم، نُربّي وجود الأرض.