“السيدة ذات القبعة الكبيرة” لفلورانس تريسترام: ذاكرة استعمارية في أدب المناجم

في إطار الندوة الدولية الثالثة حول أدب التعدين والفنون التشكيلية والمسرح والسينما، التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة بالتعاون مع فريق الدراسات الثقافية بمركز الدراسات والبحوث في مجال التعدين (CERHSO) يومي 13 و14 يونيو 2025، قدمت الدكتورة رشيدة السعيدي، أستاذة الأدب الفرنسي، مداخلة بعنوان “السيدة ذات القبعة الكبيرة” لفلورانس تريسترام: الذاكرة الاستعمارية لمدينة بوبكر.

هذه المداخلة، التي تندرج ضمن موضوع الندوة “الخطابات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في الإنتاج الأدبي والفني المتعلق بالتعدين”، تقدم تحليلاً عميقاً لرواية فلورانس تريسترام الصادرة عام 1996، التي تربط بين الذاكرة الشخصية والتاريخ الاستعماري لمدينة بوبكر ومنجم زليجة.

سنحاول في هذه القراءة المتواصعة و المستوحاة من تحليل الدكتورة السعيدي، لأبعاد الرواية كعمل أدبي ينتمي إلى أدب المناجم، والتي تبرز التناقضات بين الرؤية المثالية للاستغلال التعديني والواقع القاسي للنهب الاستعماري.

المنجم: ملتقى أنثروبولوجي وكرونوتوب للذاكرة

تؤكد الدكتورة السعيدي أن المنجم ليس مجرد موقع لاستخراج المعادن، بل هو “ملتقى أنثروبولوجي” يعكس تجارب العمال من حوادث وأمراض وتضامن وفقر ونضال. كما يمثل “كرونوتوباً”، بحسب تعبير ميخائيل باختين، يطرح تساؤلات اجتماعية وثقافية وبيئية واقتصادية وسياسية.

في هذا السياق، تبرز رواية السيدة ذات القبعة الكبيرة كعمل يجمع بين الدقة التاريخية والروح الروائية. فلورانس تريسترام، التي ولدت في بوبكر حيث كان والدها نائب مدير منجم زليجة، تستند إلى وثائق غنية وذكريات شخصية لنسج قصة تجمع بين مصير دومينيكا والتر-غيوم، زوجة جان والتر، ومصير مدينة بوبكر التي تحولت من قرية صحراوية إلى “إلدورادو منجمي أسطوري”، كما وصفها ليون موريه عام 1930.

الرواية، التي تحمل طابعاً شهادياً كما يشير العنوان الفرعي “قصة حقيقية”، تأخذ القارئ في رحلة عبر مغامرة جان والتر، المهندس المعماري الطموح الذي أسس منجم زليجة عام 1925، مستفيداً من تسوية دين بحق تعديني لبئر روماني.

على الرغم من التحديات – الحروب، الأزمات الاقتصادية، النكسات الأولية – نجح والتر في تحويل بوبكر إلى “واحة استثنائية” بحلول عام 1952، تضم أحياء أوروبية وعربية، ومدارس، ومحلات، ومزارع أشجار. لكن هذه الصورة المثالية، التي قدمها والتر بفخر كـ”مختبر اجتماعي” ورمز للمهمة الحضارية الفرنسية، تخفي وجهاً آخر: استغلالاً مفترساً أدى إلى استنزاف المنجم، تاركاً إياه “قشرة فارغة” بعد استقلال المغرب.

التناقضات الاستعمارية: بين التنمية المزعومة والنهب

تكشف الرواية، كما تحللها الدكتورة السعيدي، التناقضات العميقة بين الرؤية المثالية للتنمية الاقتصادية والواقع القاسي للاستغلال الاستعماري. جان والتر، الذي صورته الرواية كبطل طموح، لم يكن مدفوعاً فقط برؤية إنسانية لبناء مدينة عمالية حديثة، بل بجشع الإثراء السريع.

استراتيجيته المعتمدة على “الاستخراجية المفترسة”، التي تهدف إلى “إزالة قلب المنجم” في عقود قليلة، تعكس منطق فرنسا الاستعمارية الرأسمالية التي لا تعرف الضمير أو الأخلاق. هذا النهج، الذي أثرى والتر بشكل هائل وساهم في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، جاء على حساب البيئة المحلية والمجتمع الأصلي.

البيئة عانت من استنزاف الموارد الجوفية، مما ترك المغرب بعد الاستقلال مع حوالي 200 موقع تعديني مهجور، كما تشير المصادر. أما على المستوى الاجتماعي، فقد كشفت الرواية عن غياب شبه كامل للسكان الأصليين، وهو غياب ذو دلالة كبيرة.

البدو، الذين ارتبطوا بأرضهم كـ”أم مرضعة”، رفضوا العمل في المنجم، مفضلين حياة الترحال على “عمل السجناء”. وللتغلب على هذا الرفض، لجأ المستعمرون إلى اختبارات نفسية بيروقراطية وعنصرية، كما يحلل ميشيل فوكو وإدوارد سعيد في أطروحاتهما عن السلطة والاستشراق. هذه الأدوات عززت السيطرة الاستعمارية، متجاهلةً الديناميات الثقافية للسكان الأصليين، الذين صورهم النص كأشباح في أرضهم.

دومينيكا: رمز الجشع والمجتمع الباريسي

دومينيكا والتر-غيوم، “السيدة ذات القبعة الكبيرة”، تظهر كرمز للمجتمع الباريسي “الأناني والتافه” في سنوات الجنون. طموحها للرفاهية والسلطة دفعها إلى التخطيط لضمان نصيب كبير من إرث المنجم، مما يعكس جشعها. زياراتها النادرة لبوبكر، التي وصفتها تريسترام كـ”محنة” لزوجات المهندسين بسبب أسلوبها المتعجرف، تبرز انفصالها عن الواقع المحلي. هذه الشخصية، إلى جانب جان والتر، تجسد التناقض بين الصورة الإنسانية المزعومة والدوافع الرأسمالية الحقيقية.

ملاحظات نقدية حول مقاربة الدكتورة مصمودي

مقاربة الدكتورة السعيدي لرواية تريسترام تمتاز بالعمق والتعددية، حيث نجحت في ربط الأدب التعديني بالسياقات التاريخية والثقافية، مع التركيز على الخطابات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. كما ان اعتمادها على مفاهيم مثل “الكرونوتوب” و”الملتقى الأنثروبولوجي” اضفى على تحليلها طابعاً نظرياً متيناً.

بينما إشارتها إلى أعمال فوكو وسعيد تعزز فهم السياقات الاستعمارية. كما أن تركيزها على غياب السكان الأصليين يكشف عن حساسية نقدية تجاه الروايات المهمشة، مما يتماشى مع دعوتها إلى “إنسانية مناهضة للاستعمار”.

ومع ذلك، وكأي عمل أدبي ان سمحت لنا الاستاذة بتسجيل ملاحظات يمكننا الاشارة الى :

  • أولاً، ربما كان بالإمكان تعميق تحليل الجوانب البيئية للاستغلال التعديني، خاصة في ضوء الإشارة إلى المواقع المهجورة، لربطها بتحديات التنمية المستدامة الراهنة.
  • ثانياً، يبدو أن التركيز على التناقضات الاستعمارية يغفل أحياناً الأصوات الأدبية المغربية التي تناولت المناجم، مما قد يعزز مقارنة أكثر شمولية.
  • أخيراً، كان من الممكن أن تتناول المقاربة بشكل أوضح كيف يمكن للأدب أن يسهم في إعادة بناء ذاكرة جماعية مغربية تتجاوز الإرث الاستعماري.

خاتمة: واجب الذاكرة في أدب المناجم

تُعد السيدة ذات القبعة الكبيرة عملاً أدبياً غنياً يتجاوز السيرة الذاتية ليصبح مرآة للتناقضات الاستعمارية. ومن خلال تحليل الدكتورة السعيدي، نرى كيف تكشف الرواية عن وهم التنمية المثالية، مبرزةً النهب البيئي والتهميش الاجتماعي. إنها دعوة إلى “واجب الذاكرة”، كما تصفه المقاربة، لفهم الماضي دون الوقوع في فخ الثنائيات التبسيطية.

في سياق المغرب المعاصر، الذي أصبح “سيد مصيره”، تظل هذه الرواية وتحليلها صوتاً حيوياً يدعو إلى إعادة التفكير في إرث المناجم، ليس فقط كمواقع مهجورة، بل كفضاءات لإعادة بناء مستقبل أكثر عدالة، يعيد للأصوات المنسية – خاصة السكان الأصليين – مكانتها في السرد التاريخي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!