5 مفارقات مدهشة عن علم السياسة بالمغرب كشفها عبد الله ساعف

يكشف المفكر المغربي البارز عبد الله ساعف عن مفارقة مركزية محيرة: في الوقت الذي تشهد فيه شعب علم السياسة ازدهاراً وإقبالاً كبيراً من الطلاب، يبدو أن السياسة نفسها تتراجع أهميتها وتتجه نحو الهامش في المجتمع المغربي. من خلال تأملاته العميقة، يقدم ساعف تشخيصاً دقيقاً يكشف عن خمس مفارقات أساسية ترسم ملامح هذا التخصص في المغرب اليوم.
1. المفارقة الكبرى: ازدهار “موضة” علم السياسة في زمن انحدار السياسة
يصف ساعف ظاهرة عكس كل التوقعات: “نهضة” أو طفرة مفاجئة في اهتمام الشباب بدراسة العلوم السياسية. المدهش في الأمر أن هذا الإقبال يأتي حتى من طلاب متفوقين في مسارات علمية بحتة، يقررون تغيير تخصصهم بشكل كامل للالتحاق بهذا المجال. يكمن جزء من تفسير هذا الإقبال في أن الطلاب يرون في التخصص بوابة لمستقبل مهني على الساحة الدولية، مدفوعين بطموحات مثل “أن أصبح دبلوماسياً” أو “أعمل في جمعيات المجتمع المدني الدولي”. يقف هذا الازدهار الأكاديمي في تناقض صارخ مع ملاحظته القاسية بأن السياسة فقدت دورها المركزي في المجتمع وتراجعت إلى مرتبة أدنى.
يلخص ساعف هذا الانحدار في عبارة قوية ومعبرة:
بالدارجة كنقول السياسة نزلات لكطريام ديفيزيون، القسم الرابع الهوات، قسم الهوات.
2. “الهروب” إلى الدولي: حين تصبح السياسة الخارجية ملجأً آمناً
يلفت ساعف الانتباه إلى ملاحظة نقدية عميقة، وهي أن الأكاديميين في المغرب، وكذلك في دول عربية أخرى مثل مصر وسوريا، ركزوا تاريخياً بشكل مفرط على العلاقات الدولية، كالقضية الفلسطينية أو النزاعات الحدودية. يحلل ساعف هذا التوجه باعتباره شكلاً من أشكال “الهروب”، وطريقة لتجنب الخوض في الديناميات السياسية الداخلية الأكثر حساسية وتعقيداً في بلدانهم، مما يجعل السياسة الخارجية ملجأً فكرياً آمناً للباحثين.
3. “الزوايا الميتة”: كنوز المعرفة التي يتجاهلها الباحثون
يلاحظ ساعف هيمنة “الموجات الرسمية” على البحث العلمي، حيث يندفع الباحثون نحو المواضيع التي يبرزها الخطاب الرسمي للدولة، مثل الانتخابات والمراجعات الدستورية والقضايا الوطنية الكبرى. وفي مقابل ذلك، يصوغ مصطلح “الزوايا الميتة” لوصف تلك المواضيع البحثية غير التقليدية التي يتجاهلها هذا التيار السائد. ويقدم مثالاً محدداً وقوياً: الدراسات التي تتناول مجموعات مشجعي كرة القدم (الألتراس)، والتي يمكن أن تقدم رؤى عميقة حول الواقع المغربي من منظور غير متوقع. كما يبدي دهشته من تجاهل الباحثين للكنز المعرفي الهائل الذي يوفره الإحصاء العام الأخير للسكان، بما يحمله من بيانات دقيقة حول التحولات العميقة في بنية الأسرة المغربية، وواقع الشباب، ودور المرأة.
4. أزمة الهوية: معركة علم السياسة لإثبات وجوده
يلخص ساعف الصراع الطويل الذي خاضه تخصص علم السياسة في المغرب لإثبات “هويته التخصصية” وتميزه الأكاديمي. دخل التخصص في “نزاعات حدودية” مع حقول معرفية راسخة مثل التاريخ، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، وحتى اللسانيات، حيث كان كل تخصص يدعي ملكيته للمواضيع المشتركة كتحليل الخطاب السياسي. بالنسبة لساعف، ما يميز علم السياسة بشكل قاطع ويمنحه هويته الخاصة هو تركيزه الثابت والدائم على آليات وأسس السلطة. فبينما يهتم المؤرخ بالزمن والاقتصادي بالموارد، يبقى عالم السياسة مهووساً بفهم كيفية تشكل السلطة وممارستها.
5. عبء العالِم: الخلط بين التحليل الأكاديمي والرأي المواطن
يشير ساعف إلى إشكالية حقيقية تتمثل في الخلط المتكرر بين الخطاب المعرفي الذي يقدمه عالم السياسة والرأي العادي الذي يمكن أن يدلي به أي مواطن. غالباً ما يفسر القادة السياسيون والجمهور النقد الأكاديمي الذي يقدمه الباحث على أنه مجرد موقف حزبي أو رأي شخصي، ويفشلون في إدراك الفرق الجوهري بين التحليل العلمي المبني على مفاهيم ومناهج دقيقة، والخطاب العام المتداول. هذه المعضلة، كما يلمح ساعف، هي إشكالية كلاسيكية في العلوم الاجتماعية، تذكرنا بالتمييز التأسيسي الذي وضعه مفكرون مثل ماكس فيبر بين التحليل العلمي والرأي العام. لذا، يشدد ساعف على “مسؤولية” الباحث في تقديم إضافة علمية مميزة، والحفاظ على هذا الفارق الجوهري.
خاتمة: تخصص على مفترق طرق
في نهاية المطاف، يقف علم السياسة في المغرب عند منعطف مثير ومليء بالتحديات. إنه يعيش طفرة في شعبيته الأكاديمية، بينما يشهد موضوعه الأساسي – السياسة – تهميشاً متزايداً في الفضاء العام. هذا الوضع يطرح سؤالاً جوهرياً، مستوحى مباشرة من تأملات عبد الله ساعف، يستحق أن نفكر فيه جميعاً: في مجتمع تبدو فيه السياسة وكأنها تنسحب إلى الهوامش، ما هو الدور المستقبلي الذي سيلعبه هذا الجيل الجديد من دارسي العلوم السياسية الطموحين؟









