ياسين بعبسلام: ساحر القوافي بين مضايق الشعر وصراخ الوجود

يُعد الشاعر ياسين بعبسلام، بتجربته الشعرية الفتية التي لا تتجاوز ديوانه الأول، صوتاً متميزاً يراهن على الموسيقى والإيقاع كركيزة أساسية لقصائده. في زمن يميل فيه كثيرون إلى التحرر من قيود الوزن والقافية، يختار بعبسلام “سلوك المضايق”، متعمداً تذليل أصعب البحور وأندر القوافي، مؤمناً بأن الشاعر الماهر هو من يستطيع اللعب في المساحات الضيقة، تماماً كلاعب كرة القدم المتمكن.

المدخل الموسيقي والرهان على الجمال

يؤكد بعبسلام أن مدخله الرئيسي إلى القصيدة هو باب الموسيقى والإيقاع الذي يأتيه عفو الخاطر، متأثراً بمخزونه من محفوظات الشعر الجاهلي والمعلقات والمفضليات، المعروفة بجرْسها الموسيقي القوي. هذا الوعي الموسيقي العميق قاده إلى محاولات فريدة، كتلك القصيدة التي نظمها وفق بحور الشعر كلها في نص واحد، وعنونها بـ “16 بحراً لغرق واحد”.

إن اختياره للقوافي ليس تكلفاً، بل محاولة لجعلها جزءاً لا يتجزأ من تركيب البيت، يخدم المعنى بدلاً من أن ينتأ عنه. يرى الشاعر أن تجربته تشبه ترويض “اللزوميات” عند أبي العلاء المعري، الذي لم يمنعه إلزام نفسه بما لا يلزمه من بلوغ قمم الشعر العربي.

وعلى وتر الشاعر الذي يسعى جاهداً لاستخلاص المعنى من احتراق الذات، تأتي قصائده كصرخة وجودية تكاد تفتت القلب لتصير قصيدة:

هنا الان احترق افتت قلبي

كي يصير قصيدة

وتصبح روحي نفخة الحبر في الورق

لأن بحور الشعر تصرخ داخلي

سأنشد موالي لأنجو من الغرق

الحزن، القضية، ومسألة التكسب

تتنوع موضوعات الشاعر بين الغزل الرقيق المرفوع إلى السيدتين الأغلى في حياته (الأم والزوجة)، وبين قضايا الوجود والوطن، حيث يجد أن قصيدته نبي صاغ من الحزن وحياً. يلامس بعبسلام قضايا كبرى مثل ملاحم غزة البطولية، مقترحاً شعاراً جديداً للزمن الراهن: “أخون أو لا أخون” بدلاً من “أكون أو لا أكون”، رداً على خيانة المؤتمنين وتعرض فلسطين للبيع.

كما يغوص في ذكرى المسيرة الخضراء ووصف الصحراء المغربية كـ “غادة حسن”، ولا يغفل عن وجع مناطق الريف مثل الحسيمة، مناجياً إياها بمرارة.

ورغم الإقرار بأهمية الجوائز كـ “محطات على الطريق الطويل” لتسليط الضوء على الشاعر، يؤكد بعبسلام رفضه الكتابة تحت الطلب أو أن يكون الشعر “ضحية” للجوائز. على غرار ما كان يفعله الشعراء القدامى كالمتنبي في المدح التكسبي، لا يرى في خوض التنافس للحصول على الجائزة ما ينقص من جودة التجربة الشعرية، طالما أن نضجها يتم بتلقائية.

ولقد أكون ومال صدري وحشة

ومرارة الأحزان جرحي تنكأ

حتى إذا وسدت رأسي حجرها

يرتاح في خلد الضجيج ويهدأ

بين الإلقاء والنثرية: تحدي الشاعر الموزون

فيما يخص الإلقاء، يتعمد الشاعر إخفاء السيمترية (التناظر) التي تحكم قصيدته الموزونة، تجنباً للإلقاء “النظمي” الروتيني المزعج للأذن. هذه الطريقة، التي تذكر بأسلوب محمود درويش في إخفاء الجوانب الموزونة وإظهار الجمل في قالب أقرب إلى النثر ليصبح أخف على المتلقي، هي سِمة يرى فيها بعبسلام ذكاءً فنياً يُحسب له.

يختتم ياسين بعبسلام تجربته الفتية بتأكيده على أن الرهان الحقيقي هو على جودة القصيدة ونضجها الفني، متحرراً من قيود التصنيف العمري أو الاجتماعي، لأن معيار الشاعر يكمن في مدى نضج قصيدته.

إن مسيرة الشاعر الشاب تبدو وكأنها رحلة يشد فيها رحال الشاعر القديم الذي يحمل رماد العَنقاء، ليتفجر شعراً وإيقاعاً في دروب الوجود الشائكة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!