ندوة أكاديمية المهدي بن بركة تناقش أزمة التعليم وخريطة الطريق

الرباط، 10 ماي 2025 –

نظمت أكاديمية المهدي بن بركة للدراسات الاجتماعية والثقافة العمالية، يوم السبت 10 ماي 2025، ندوة نقدية بالمقر المركزي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، تحت عنوان “قراءة نقدية لخريطة الطريق في التعليم“. جمعت الندوة نخبة من الخبراء والفاعلين التربويين لمناقشة أزمة التعليم في المغرب، التي وُصفت بـ”الكارثية” و”السوداء“، مع التركيز على تحديات النظام التعليمي، تأثير الخصخصة، إشكالية لغة التدريس، وضعف الإرادة السياسية. كشفت النقاشات عن أزمة بنيوية متجذرة تتطلب إصلاحات جذرية، مع اقتراح توصيات لاستعادة مكانة التعليم العمومي كركيزة للتنمية والعدالة الاجتماعية.

  • افتتاح الندوة: التعليم ركيزة التنمية وأداة للصراع السياسي

افتتح الندوة السيد سي عثمان، ممثل الأكاديمية، مرحبًا بالحضور ومؤكدًا أن التعليم يشكل ركيزة أساسية لبناء المجتمعات وتحقيق العدالة الاجتماعية. وأشار إلى أن المنظومة التعليمية تعاني من أزمات بنيوية متراكمة، ناتجة عن اختيارات سياسية متتالية وتأثير إملاءات الجهات المانحة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، التي ساهمت في إضعاف المدرسة العمومية لصالح القطاع الخاص.

وانتقد الازدواجية بين التعليم العمومي والخصوصي، واصفًا إياها بـ”غير الصحية” لأنها تعزز التمييز الطبقي، وأضاف أن المدارس الخاصة تحولت إلى “منجم ذهب للتجار التربويين“. ودعا إلى بناء مدرسة وطنية منصفة تضمن تكافؤ الفرص، مؤكدًا أن ذلك يتطلب إرادة سياسية واضحة واستراتيجية وطنية متكاملة.

  • نقاش حول أزمة التعليم: بين التشخيص والإصلاح

قدم الأستاذ عبد الله ساعف، أستاذ جامعي وسياسي سابق، مداخلة نقدية حول النظرة السوداوية السائدة تجاه التعليم. واعتبر أن “خطاب الأزمة” ليس جديدًا، بل يعود إلى بداية الاستقلال، مع تنافس المدارس الحز-testimony الحرة وابتعاد النظام عن المبادئ الأربعة (التعميم، التوحيد، التعريب، المغربة). مرجعًا ذلك إلى عوامل اجتماعية وسياسية، حيث ادى توسع الطبقات الوسطى الى جعل المدرسة رمزًا للمكانة الاجتماعية وليس بالضرورة المكانة العلمية…، مما زاد الضغط عليها.

كما اضاف ان البعض يلجأ إلى استغلال “الخطاب الأزموي” سياسيًا لتحقيق مكاسب حزبية، مما أفقد الثقة في المؤسسات الرسمية.

وأقر بوجود تحديات كبيرة، لكنه رفض التعميم الكارثي، مشددًا على أن الإصلاح يتطلب وقتًا ومواجهة الصراعات الأيديولوجية داخل القطاع.

من جانبه، ركز الأستاذ نور الدين العوفي، أستاذ باحث في الاقتصاد، على نقد “خريطة الطريق 2022-2026“، واصفًا إياها بـ”الجزئية” و”المختزلة“، لتركيزها على الجوانب البيداغوجية دون معالجة الرهانات الاستراتيجية.

وانتقد الفرضيات التي تقوم عليها الخريطة، مثل تفضيل التدبير الخاص على العام، والاعتماد على خبرات أجنبية، كمختبر J-PAL، واستيراد نماذج مثل “مدارس الريادة” من الهند. ودعا إلى مواجهة “الإيديولوجيا النيوليبرالية” التي تستهدف المدرسة العمومية، من خلال خلق ميزان قوى سياسي للدفاع عن التعليم العمومي.

  • واقع التعليم في المغرب: أزمة بنيوية متفاقمة

تناول الأستاذ الدفعلي، مؤرخ مهتم بتاريخ التعليم، جذور الأزمة التعليمية، مشيرًا إلى أنها مسألة تاريخية تعود إلى بدايات الاستقلال، حيث كانت المدارس الحرة حزبية وتنافسية. وأشار إلى تراجع المبادئ الأساسية (التعميم، التوحيد، التعريب، المغربة)، مع انتقاد التوحيد الذي ألغى الإرث الإسباني وعمم الفرنسية، معتبرًا ذلك خسارة لغوية.

فيما وصف رشيد، ممثل النقابة الوطنية للتعليم، تاريخ الإصلاحات بـ”تاريخ الفرص الضائعة“، منتقدًا القطيعة بين المخططات الإصلاحية، من الميثاق الوطني إلى خريطة الطريق، دون تقييم موضوعي. وأكد أن المدرسة تعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية، مستندًا إلى تقرير يشير إلى تأثير الخلفية الأسرية بنسبة 80% على المسار الدراسي. ودعا إلى تعليم عمومي وطني منصف، يضمن الجودة والمجانية.

أجمع المتحدثون على أن التعليم في المغرب يعيش أزمة عميقة، تتجاوز المشاكل التقنية لتصبح تحديًا سياسيًا واجتماعيًا. تشمل مظاهر هذه الأزمة:

  • ضعف جودة التعليم: أكدت التقارير الرسمية وجود اختلالات بنيوية تؤثر على مخرجات التعليم، مع تراجع في المؤشرات الدولية مثل TIMSS وPISA.
  • ارتفاع الهدر المدرسي: يعاني النظام من معدلات مرتفعة للتسرب، خاصة في المناطق الريفية والهشة.
  • الفجوة الاجتماعية: أدت الازدواجية بين التعليم العمومي والخاص إلى تمييز طبقي، حيث تُعتبر المدارس الخاصة “منجم ذهب” للتجار التربويين، بينما تُهمش المدرسة العمومية.
  • الاكتظاظ ونقص الموارد: تعاني الفصول من اكتظاظ، مع نقص في الوسائل المادية الضرورية.
  • إشكالية لغة التدريس: الانتقال “الصامت” من التعريب إلى التدريس بالفرنسية أثر سلبًا على التحصيل العلمي، مع غياب نقاش عمومي حول هذا التحول.
  • هيمنة القطاع الخاص: تشجيع الخصخصة، بدعم من إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، أضعف المدرسة العمومية وزاد من الفوارق الاجتماعية.
  • أزمة التعليم العالي: تُحرم آلاف الطلبة من متابعة دراستهم بسبب الانتقائية المفرطة.
  • نقد خريطة الطريق: مقاربة جزئية وتشخيص خاطئ

انتقد المتحدثون “خريطة الطريق” ونموذج “مدارس الريادة“، معتبرين أنها تركز بشكل مختزل على الجوانب البيداغوجية دون معالجة التحديات البنيوية. وشملت الانتقادات:

  • تشخيص خاطئ: انطلاق الخريطة من فرضية أن المدرس “ناقص الكفاءة”، مما يُقلل من قيمة الخبرة الوطنية.
  • اعتماد الخبرة الأجنبية: الاستعانة بمختبرات مثل J-PAL وتجارب مستوردة (كالتدريس حسب المستوى المناسب من الهند) تُعتبر غير ملائمة للواقع المغربي.
  • تنميط العلاقة البيداغوجية: تحول مهنة المدرس إلى تنفيذ تعليمات نمطية يقتل الإبداع والتفاعل الإنساني.
  • التجريب العشوائي: إنفاق مبالغ طائلة على تجارب تأتي بنتائج بديهية.
  • الارتباط بآجال الحكومة: ينذر بانقطاع الإصلاح مع تغيير الولايات الحكومية.
  • التركيز على المؤشرات الدولية: على حساب تحقيق أهداف تعليمية حقيقية تتماشى مع حاجيات المجتمع.

كما أُشير إلى أن الخريطة تفتقر إلى تحليل سياسي عميق، وتعتمد على نماذج ليبرالية تدفع نحو “مدرسة المقاولة”، مما يهدد بتعميق الخصخصة بدلاً من إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية.

  • الإرادة السياسية: المفتاح المفقود

أكد المشاركون أن غياب الإرادة السياسية الواضحة والثابتة هو السبب الجوهري وراء استمرار الأزمة. وُجهت انتقادات لتوجه الدولة نحو دعم “وظائف القوة” (كالصناعات الكبرى) على حساب القطاعات الاجتماعية مثل التعليم، التي تُسند للقطاع الخاص. وأُشير إلى نجاح قطاعات أخرى، مثل كرة القدم، كدليل على ما يمكن تحقيقه بوجود إرادة سياسية قوية.

تُعتبر اختيارات التعليم سياسية بامتياز، تحدد طبيعة المجتمع المراد بناؤه (طاعة أم نقدي). وأكد المتحدثون أن إصلاح التعليم ليس مسألة تقنية، بل معركة ثقافية وسياسية تتطلب تحليلًا سياسيًا عميقًا وتخطيطًا استراتيجيًا يضع المتعلم ومصلحة الوطن في المقدمة. كما نوقش الصراع الأيديولوجي، حيث تُتهم الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة بتعزيز الخصخصة، بينما دعا البعض إلى خلق “ميزان قوى سياسي” للدفاع عن المدرسة العمومية.

  • إشكالية اللغة والمناهج والإيديولوجيا

طرحت الندوة إشكالية لغة التدريس، حيث انتقد المتحدثون “الصمت المريب” للدولة في الانتقال من التعريب إلى تدريس المواد العلمية بالفرنسية، معتبرين أن ذلك أثر سلبًا على التحصيل العلمي. كما نوقشت قضية المناهج، التي لم تحظ بالإصلاح الكافي لتعزيز التفكير النقدي، واعتبر المتحدثون أن التعليم ليس مجرد أداة معرفية، بل ساحة صراع أيديولوجي يحدد هوية المجتمع.

  • الحلول المقترحة: إرادة سياسية وميزان قوى

اتفق المتحدثون على ضرورة إرادة سياسية واضحة لإصلاح التعليم، مع وضعه في قلب مشروع مجتمعي ديمقراطي. ودعوا إلى إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، ضبط القطاع الخاص، والاستثمار في الموارد البشرية، خاصة الأساتذة. كما أكدوا على أهمية المساءلة والمحاسبة، وإشراك الفاعلين التربويين في صياغة الإصلاحات، مع التحذير من مخاطر الخوصصة الزاحفة.

  • توصيات لإصلاح التعليم

استنادًا إلى مخرجات الندوة، يمكن استخلاص التوصيات التالية لإصلاح النظام التعليمي في المغرب:

  • تعزيز الإرادة السياسية:
    • تبني إرادة سياسية واضحة وثابتة تضع التعليم في قلب المشروع المجتمعي الديمقراطي.
    • إجراء تحليل سياسي عميق لتحديد الخلل الجوهري وتوجيه الإصلاحات نحو العدالة والإنصاف.
    • انخراط القيادة العليا لضمان الالتزام والاستمرارية في تنفيذ الإصلاحات.
  • إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية:
    • تعزيز الاستثمار في التعليم العمومي لضمان جودته ومجانيته كحق إنساني.
    • ضبط القطاع الخاص عبر قوانين صارمة تحد من هيمنته وتضمن تكافؤ الفرص.
    • توحيد التعليم في جميع أسلاكه للقضاء على الازدواجية بين العمومي والخاص.
  • إصلاح المناهج والبرامج التعليمية:
    • مراجعة المناهج لتعزيز التفكير النقدي، الإبداع، والهوية الوطنية، مع الاستجابة لحاجيات سوق العمل.
    • تثبيت البرامج لتجنب التغييرات المتكررة التي تُربك المنظومة.
  • معالجة إشكالية لغة التدريس:
    • إجراء نقاش عمومي شامل حول لغة التدريس لضمان توافقها مع الهوية الوطنية واحتياجات التحصيل العلمي.
    • تعزيز مكانة اللغة العربية مع الاستفادة من اللغات الأجنبية دون هيمنتها.
  • الاستثمار في الموارد البشرية:
    • إعادة الاعتبار لمهنة المدرس عبر تحسين ظروف العمل، التكوين المستمر، وتعزيز دوره كفاعل إبداعي.
    • الاعتماد على الخبرات الوطنية بدلاً من النماذج المستوردة غير الملائمة.
  • تفعيل المساءلة والمحاسبة:
    • تغيير الفاعلين المسؤولين عن التخطيط والتنفيذ في حال الفشل.
    • ربط المسؤولية بالمحاسبة لضمان الشفافية ومنع الإفلات من العقاب.
  • مواجهة الصراع الأيديولوجي:
    • خلق ميزان قوى سياسي يدافع عن المدرسة العمومية ضد الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة.
    • ضمان أن تكون الاختيارات التربوية موجهة نحو بناء مجتمع نقدي ومنصف.
  • اعتماد نموذج تمويلي عادل:
    • تطوير نموذج تمويلي يضمن تكافؤ الفرص، مع التركيز على الإنصاف بدءًا من التعليم الأولي.
    • تخصيص ميزانيات كافية لمعالجة الاكتظاظ ونقص الموارد.
  • تقييم الإصلاحات السابقة:
    • إجراء تقييم موضوعي وعلمي للمخططات الإصلاحية السابقة لفهم أسباب الفشل.
    • ضمان استمرارية الإصلاحات بعيدًا عن آجال الولايات الحكومية.
  • إشراك الفاعلين المجتمعيين:
    • إشراك النقابات، المجتمع المدني، الأساتذة، وأولياء الأمور في صياغة وتنفيذ الإصلاحات.
    • تعزيز الحوار الوطني لخلق توافق حول رؤية مشتركة للتعليم.

  • خاتمة

كشفت ندوة أكاديمية المهدي بن بركة عن عمق أزمة التعليم في المغرب، التي تتجاوز المشاكل التقنية لتصبح تحديًا سياسيًا واجتماعيًا. تتطلب المعالجة إرادة سياسية قوية، تحليلًا سياسيًا عميقًا، وتخطيطًا استراتيجيًا يضع التعليم في قلب مشروع مجتمعي ديمقراطي. التوصيات المقترحة تهدف إلى استعادة مكانة المدرسة العمومية كركيزة للعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. لكن نجاح هذه الإصلاحات يظل رهينًا بقدرة الدولة على تجاوز الحسابات السياسية الضيقة والاستجابة لتطلعات المواطنين في بناء نظام تعليمي منصف وفعال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!