قيلشة العصر: حين تصبح الشهادة سلعة والتفاهة علماً.

ابو علي بلمزيان – الحسيمة 19 ماي 2025

في زمانٍ صارت فيه الشهادات كعلب السردين، يُباع بعضها في الأسواق المعتمة، ويُقدّم بعضها الآخر مع قهوة “قيلش” الساخنة، بزغ نجم جديد في سماء التعليم العالي: إنه جيل قيلش، الجيل الذي لا يقرأ الكتب بل يوقّع عليها، ولا يحضر المحاضرات بل يُعدّها، ولا يناقش الأطاريح بل يطبعها على عجل، ثم يلفّها في ورق فخم كالملفوفة الملكية، ويقول لصاحبها: مبروك، صرتَ دكتوراً بامتياز في النفاق الأكاديمي.

جيل قيلش ليس جيلاً عاديًّا، إنه جيل بمواصفات خاصة: عنده شهادة ميلاد من مصلحة الجبايات، وشهادة إجازة من سوق الأحد، وماستر من دكان خلف الجامعة، والدكتوراه؟ الدكتوراه تُسَلَّم عند منتصف الليل مع ابتسامة باردة، وهمسة خافتة: “لا تنسَ تحويل القسط الثاني، فالشهادة تحتاج إلى بنزين كي تمشي”.

جيل قيلش لا يحتاج إلى مؤهلات، فهو مؤهل جينياً للتمويه والتزوير والتفنن في تجويد البؤس. لا يكتب مقالة علمية، بل يمليها على شبح اسمه “كوبي بيست”. لا يراجع المراجع، بل يراجع دفتر الشيكات. لا يحضر المؤتمرات، بل يستحضر عرّافين لغويين يكتبون له ورقات منفوخة، عنوانها “البلاغة في زمن التخبيص”.

في قلب جامعة ابن زهر، وبين أروقة كانت تُفترض أن تكون معاقل للمعرفة، تحوّل الأستاذ الجامعي إلى وكيل عقاري للشهادات، يعرضها على الزبناء كما تُعرض قطع الغيار: هذه تصلح لتعليم أولي، وهذه للابتدائي، وهذه للماستر العجيب، وهذه للدكتوراه في علم “كيف تصبح أستاذاً دون أن تكتب سطراً”. كل شيء قابل للبيع، حتى الشرف الأكاديمي الذي استحال عندهم إلى سلعة مستعملة.

وحين ضبطوه، لم يستحِ، لم يرتبك، لم يلعن الشيطان، بل قالها بهدوء رجلٍ اعتاد اللعب بالنار دون أن يحترق: “أنا فقط أساعد الشباب على تحقيق أحلامهم”. أحلام؟ نعم، حلم أن تصير أستاذاً بلا علم، مفكّراً بلا تفكير، عالماً بلا عمل، وأشهر من نار على ورق.

أما الجامعة، فلبست جلباب الحياء المزيف، وخرجت ببيان مطليٍّ بالشمع البارد، كأن شيئاً لم يكن. لجنة تحقيق؟ نعم، لكن من طينة لجان “نُسجل ونُصنّف ونُرشّح”. ففضيحة قيلش ليست سوى رأس جبل جليدي يُخفي تحته جيلاً كاملاً من صناع الزيف، يملؤون البلاد ضجيجاً بشهاداتهم المزورة، وألسنتهم أطول من بحوثهم، وخطبهم أضخم من عقولهم.

جيل قيلش لا يقرأ فوكو، بل يعتقد أن فوكو ماركة أقمصة. لا يعرف أفلاطون، لكنه يحلف أنه التقى به في مقهى شعبي. يكتب على فيسبوك مقولات منسوبة لـ”سقراط بن تافراوت”، ويدّعي امتلاك نظرية جديدة في السوسيولوجيا عنوانها: “كيف تزوّر وتنجح وتُحاضر بثقة زائفة؟”.

ووسط هذا الكرنفال الأكاديمي، تتكاثر “المعاهد” كالفطر بعد المطر، ويُفتح التسجيل في شعبٍ غريبة الأطوار: ماستر في علوم اللغو، إجازة في هندسة التفاهة، ودكتوراه في فلسفة البهرجة. والكل يحمل توقيعاً أصيلاً من جيل قيلش، الجيل الذي يكتب تاريخه بالحبر الساخر، والضحكة المرة، والصفعات المؤجلة.

فطوبى لمن نجا من هذا الجيل، ومن صمد في وجه ريح القيلشة، ومن لم يُغره الكرسي الدوار ولا العطر الباريسي ولا دفتر الشيكات. وطوبى لمن ظل يكتب ويقرأ ويكدح في صمت، ولو من وراء حائط مُتشقق، وشاشة مكسورة، وكرسي صدئ، لأن الشرف، يا سادة، لا يُباع، حتى في سوق قيلش المفتوح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!