روبورتاج: رحلة الشاب مامي – أيقونة الراي من وهران إلى العالمية

في شوارع وهران النابضة بالحياة، حيث تمتزج أصوات الأفراح التقليدية برياح البحر الأبيض المتوسط، بدأت قصة فنان استثنائي يُعرف بلقب “الشاب مامي”. هذا الروبورتاج المستوحى من وثائقي عن حياته يكشف عن رحلة هذا الشاب الجزائري، من طفل يغني في الحفلات العائلية إلى نجم عالمي يملأ مسارح مثل زينيث باريس، حاملاً معه إرث موسيقى الراي المتمردة.

نشأة في قلب وهران: جذور الشاب مامي

وُلد الشاب مامي في مدينة وهران، التي يصفها بأنها “جميلة جداً“، وهي مهد موسيقى الراي الذي ينبض في شرايينها. منذ طفولته، في سن الثامنة أو التاسعة، كان مامي يغني مع أصدقائه بالقرب من منزله، مستغلاً تقاليد الأفراح الجزائرية ليحصل على أول ميكروفون ويبدأ رحلته الموسيقية. “كنت أغني في الأعراس، والجيران كانوا يدفعون لي بعض المال“، يروي مامي بابتسامة تعكس براءة تلك الأيام.

وهران لم تكن مجرد مكان ولادته، بل كانت وطناً عاطفياً يعود إليه كلما أحس بـ”الشوق للبلد“. في زيارة عائلية أخيرة، لاحظ أن “الناس عايشة طبيعي والحياة هادية“، فقرر تمديد إقامته ليستعيد “الجو الجزائري” الذي يعشقه. يقول: “أعرف تقريباً كل الناس في وهران، حتى أصحاب شركات الكاسيت!“، في إشارة إلى الترابط الاجتماعي الذي يميز المدينة.

موسيقى الراي: صوت التمرد والحرية

موسيقى الراي، التي ارتبط بها مامي، هي أكثر من مجرد ألحان. إنها “صرخة أمل” لجيل الشباب الجزائري، كما وصفها أحد المعلقين في الوثائقي. نشأت هذه الموسيقى في أحياء وهران الشعبية، حيث كانت تُغنى في الأفراح والختان، وأحياناً في أماكن “سيئة السمعة” كالكباريهات وبيوت الدعارة، مما جعلها تُعرف بـ”موسيقى الباف” (الطبقات الدنيا). لكن مع دخول الآلات الحديثة، تطورت الراي لتصبح نوعاً موسيقياً متميزاً، يحمل لقب “شاب” لمطربيه الشباب.

أغاني الراي تتحدث عن الحب والكحول والحرية، وتتميز بـ”كلمة متمردة” لكنها ليست سياسية. “الراي في مواجهة الظلامية“، يقول أحد المحللين، لكنه يفتقر إلى الطابع الاحتجاجي المباشر الموجود في الأغنية الأمازيغية مثلاً. بالنسبة لمامي، أغانيه هي انعكاس لحياته الشخصية: “أغني عن ماضيّ، يومياتي، حياتي“. يرفض الخوض في السياسة، موضحاً: “أنا مش سياسي، وما أعرفش أتكلم في السياسة خالص“.

التحديات: قيود النظام ومخاطر الفن

لم تكن رحلة مامي خالية من العقبات. في الجزائر، واجه فنانو الراي قيوداً نظامية حالت دون وجود أماكن مخصصة لهم للغناء، سواء في وهران أو غيرها. “كان فيه نظام بيخلي الفنانين زينا مالهمش مكان يغنوا فيه“، يشير مامي. كما كانت هناك محاولات لـ”استغلال” الراي و”خنقها”، عبر تفضيل نصوص “معقمة” تخلو من الجرأة. في عام 1986، اضطرت فرنسا لفرض مشاركة الشيخة ريميتي في حديث بسبب رفض الجزائريين لها، مما يعكس هذا الصراع.

الأخطر من ذلك، المخاطر التي هددت حياة الفنانين. يعلق مامي بحسرة: “خسارة إنهم يقتلوا المطربين“. ويُشار إلى الشاب حسني، الذي دفع حياته ثمناً لغنائه عن الحرية. رغم تجنب مامي للسياسة، إلا أن هذه الأجواء كانت تُلقي بظلالها على المشهد الفني.

حفل زينيث: ذروة النجاح العالمي

في 17 فبراير، وقف الشاب مامي على مسرح زينيث باريس في حفل وصفه بـ”الاستثنائي”، وهي المرة الأولى له في هذا المكان الشهير. كانت التحضيرات مكثفة، شملت ترويجاً إعلامياً ومقابلات إذاعية، لكنها لم تخلُ من القلق. “كل الفنانين بيخافوا من الأسوأ. هل صوتي هيكون كويس؟ هل هقدر أقدم؟“، يروي مامي. خلال العرض، كان منشغلاً بتنسيق الفرقة، الكورال، والإضاءة، لدرجة أنه شعر بعد الحفل بـ”ثقب أسود“، حيث لم يتذكر التفاصيل بوضوح. لكنه كان سعيداً بالإنجاز، خاصة أن الحفل طُلب بناءً على إعجاب بأجواء أغنية معينة وتوزيعها الموسيقي.

شخصية مامي: بين البراءة والتفاؤل

يصف مامي نفسه بأنه “كتوم لكن شفاف”، ويقول: “حياتي من غير أسرار، معنديش حيثة يخبيها“. يراه البعض “كالطفل”، يحمل سذاجة وبراءة يتمنون أن تبقى. “أنا متفائل رغم كل شيء“، يؤكد، وهو ما يعكس قدرته على تجاوز الصعاب. في سن المراهقة، عاش تجربة الحب الأولى بكل ما تحمله من إحراج وسحر، واصفاً كيف كانت الفتاة الأولى في نظره “أجمل بنت في الدنيا”.

تأثير الراي والشاب مامي على المجتمع

موسيقى الراي، عبر صوت مامي، لم تكن مجرد ترفيه. كانت “صرخة شباب” تعبر عن آمال جيل، خاصة الشباب الجزائري في الداخل والمهجر. في فرنسا، قدم مامي قيمة اجتماعية للشباب من أصول جزائرية، حيث يقول: “جمهوري كل الناس“. لكن هذا التأثير لم يخلُ من التحديات، حيث واجه الراي محاولات لتفريغ كلماته المتمردة من محتواها، وصعوبات لغوية بسبب استخدام الدارجة الجزائرية في مواجهة الفصحى أو اللهجات العربية الأخرى.

خاتمة: إرث الشاب مامي

الشاب مامي ليس مجرد فنان، بل رمز للراي الذي يحمل روح وهران إلى العالم. من شوارع المدينة إلى مسارح باريس، شق طريقه بصوت يحكي قصص الحب والحرية، متحدياً القيود والمخاطر.

رحلته، كما يرويها الوثائقي، هي قصة إنسان متفائل، يعيش بشفافية ويغني بحيوية، ليبقى صوته صدى لشباب يحلم بغد أفضل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!