روبورتاج: “الشاب خالد: ملك الراي الذي غزا العالم من شوارع وهران”

وجدة – 12 يونيو 2025

في شوارع وهران، حيث تلتقي أنغام الأندلس بإيقاعات البحر المتوسط، وُلد خالد حاج إبراهيم في 20 فبراير 1960، ليصبح لاحقًا “الشاب خالد”، ملك موسيقى الراي والصوت الذي حمل الثقافة الجزائرية إلى 290 دولة. قصته ليست مجرد رحلة فنية، بل ملحمة إنسانية تجمع بين الشغف، المثابرة، والابتكار، في مواجهة تحديات اجتماعية ومهنية جعلت منه رمزًا عالميًا.

بدايات متواضعة: من سيدي الهواري إلى نجوم الخمس

في حي سيدي الهواري الشعبي، نشأ خالد وسط أسرة متواضعة. والده، الشرطي، كان يرى الموسيقى هواية لا مهنة، فيما كانت والدته تدعمه سرًا، موفرة له التشجيع لتحقيق حلمه. في سن الرابعة، بدأ يعزف على جيتار مصنوع من خيوط الصيد، مستخدمًا “البيدون” كدربوكة. تأثر ببيئة وهران الثقافية، التي مزجت بين الألحان الأندلسية، المغربية، الإسبانية، والموسيقى المصرية الكلاسيكية لعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. معلمه المصري إبراهيم في المدرسة زاد من تأثره بالثقافة المصرية، حيث تحدث باللهجة المصرية في طفولته.

في سن العاشرة، أسس خالد فرقته الأولى “نجوم الخمس”، مستوحاة من “جاكسون فايف”، معلنًا عن موهبة مبكرة. في سن الرابعة عشرة (1974)، سجل أغنيته الأولى “طريق الليسي”، التي أثارت جدلًا بسبب جرأتها في التعبير عن الحب بشكل مباشر. هذه الصراحة أكسبته لقب “الشاب”، ليكون أول من يحمل هذا اللقب في الراي، مُغيرًا من تقاليد “الشيخ” و”الشيخة”، وممهدًا لجيل جديد من المطربين.

تحديات المجتمع وابتكار الراي

في الجزائر خلال الستينيات والسبعينيات، لم تكن الموسيقى مهنة معترفًا بها قانونيًا، وكان الفنانون يعانون من استغلال المنتجين. خالد، الذي لم يتلق تعليمًا موسيقيًا أكاديميًا، تعلم العزف “بالسماع”، وابتكر آلاته البدائية، مما عكس إبداعه وقدرته على التكيف. كلماته الصريحة، التي تحدثت عن الحب والواقع الاجتماعي، واجهت انتقادات في مجتمع محافظ، حيث اعتُبرت أحيانًا “إباحية”. لكنه استمر، مستلهمًا من تعبيرات شعبية مثل “قيس الشبكة في البحر وابكي على الزهر”، ومن قصص محلية مثل قصة “بختة”.

خالد جدد الراي بإدخال آلات حديثة مثل البيانو، العود، والكمانجات، ممزوجة بالإيقاعات الوهرانية الأصيلة. هذا المزج جعل الراي أكثر جاذبية، مع الحفاظ على جذوره كـ”صوت ناس عاشت ولسه عايزة تعيش”. في الثمانينيات، عمل في النوادي الليلية في أوروبا، واصفًا نفسه بـ”الرحالة”، حيث كان يتنقل بسيارات مستأجرة دون وسائل ملاحة حديثة، مما يبرز صعوبة تلك الفترة.

“ديدي”: نقطة التحول العالمية

في عام 1990، جاءت نقطة التحول مع توقيع عقد مع شركة يونيفرسال (بوليغرام سابقًا)، بفضل مدير أعماله باسكال ناغر. أغنية “ديدي”، التي تعني “خذ الجمال” باللهجة الوهرانية، كانت في الأصل لحنًا بسيطًا اعتبره خالد “عضم سكلات”. لكن التعاون مع المنتجين دون واز (أمريكي، عمل مع بوب ديلان) ومايكل بروك (عازف جيتار إنجليزي) حوّلها إلى عمل عالمي. الحملة التسويقية الذكية، التي تضمنت عبارة “هذه ليست أسطوانة عربية” مستوحاة من أسلوب الرسام ماجريت، جذبت الصحافة الأوروبية، وتغلبت على التحيزات العنصرية المحتملة ضد فنان عربي.

حققت “ديدي” نجاحًا ساحقًا، وصلت إلى 290 دولة، وتصدرت قوائم الإذاعات، وأصبحت كليبها ضيفًا دائمًا على التلفزيونات. حفظها الناس حول العالم رغم عدم فهمهم للغتها، مما جعلها رمزًا عالميًا للراي. هذا النجاح لم يكن فقط فنيًا، بل ثقافيًا، حيث غيّر الصورة النمطية عن الفنان العربي، وأثبت قدرة الموسيقى على تجاوز الحدود.

الشاب خالد: بين الخجل والكاريزما

على الرغم من وقوفه أمام ملايين الجماهير، يعترف خالد بخجله الشديد، واصفًا شعوره قبل الصعود إلى المسرح بأنه “نار في القلب” أو كأنه “ماشي للعدالة”. يتغلب على هذا الخجل بعد الأغنية الأولى أو الثانية، حيث يتحول إلى “الشاب خالد” المعروف بكاريزمته وقدرته على التواصل العاطفي. ضحكته، التي تُوصف بأنها “تُضحك الدنيا كلها”، وتعبيره العاطفي جعلاه فنانًا استثنائيًا يعرف هويته الفنية بدقة.

الفن كجسر للشعوب

يرى خالد أن الفن لا حدود له، ويجمع الشعوب. في حديثه عن العلاقات الجزائرية-المغربية، أكد على الحب الشعبي بين البلدين، مشيرًا إلى أن وهران “جارة المغرب”، وتأثرت بثقافتها. لكنه دعا المسؤولين لحل التحديات الإدارية التي تعيق الأفراد، مؤكدًا أن الفن، مثل الراي، يمكن أن يكون “السلام عليكم” الذي يوحد الناس.

نصيحة للشباب: الإيمان والمثابرة

للشباب الطامحين، يقدم خالد نصيحة مستمدة من رحلته: “اكتشف موهبتك، آمن بنفسك، واعمل بجد لتتغلب على الصعاب”. يؤمن أن “ربنا بيسوق وبيمنح”، ويشجع على تقدير الأصول والاحتفال بالإنجازات. من شوارع وهران إلى مسارح العالم، يبقى الشاب خالد رمزًا للإصرار، الإبداع، والقدرة على تحقيق المستحيل.

خاتمة

الشاب خالد ليس مجرد فنان، بل صوت شعب وثقافة تجاوزت الحدود. من بداياته المتواضعة في سيدي الهواري إلى نجاح “ديدي” العالمي، شكل خالد الراي بجرأته وابتكاره، وحمل الثقافة الجزائرية إلى العالم. رحلته تُظهر أن الفن يمكن أن يكون درعًا في الأزمات، وجسرًا بين الشعوب، وطريقًا لتحقيق الأحلام، مهما كانت التحديات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!