رثاء الفنان محمد بنقدور: وجه إبداعي أضاء المسرح المغربي وانطفأ في صمت

عبدالعالي الجابري – وجدة، 1 يونيو 2025
في أجواء ملؤها الحزن والتقدير، نظمت جمعية المسرح العمالي بمقر الاتحاد المغربي للشغل بوجدة يوم 30 ماي 2025، حفل تأبين للفنان الراحل محمد بنقدور، أحد رواد المسرح في المنطقة الشرقية والمغرب. هذا الحفل، الذي شهد شهادات مؤثرة من زملائه ومحبيه، كان بمثابة لحظة لاستذكار إرث فنان شامل، أعطى الكثير للفن والثقافة دون أن ينال التقدير الذي يستحقه.
سيد التناقضات: بين الهدوء والإبداع المتفجر
كان محمد بنقدور، أو “القدور” كما يحب محبوه مناداته، رمزًا للتناقض الجميل. هادئًا، نحيفًا، يجلس في زاوية المقهى ممسكًا بقلمه، يخربش على ورقة بيضاء، كأنما ينسج أحلامه أو يطلق صرخة صامتة لم يسمعها أحد. تلك الصرخة، كما وصفها أحد أصدقائه، كانت “لواقع أكثر ألمًا ووجعًا”.
كان فنانًا متعدد المواهب، جمع بين التمثيل، الإخراج، السينوغرافيا، الكتابة المسرحية، والفن التشكيلي. هذه التناقضات بين هدوئه الظاهري وإبداعه المتفجر جعلته رمزًا للفنان المغربي الملتزم، الذي يعمل بصمت ليترك بصمة لا تُنسى.
لكنه، حين يصعد خشبة المسرح، كان يتحول إلى ساحر يتقن دوره، يأسر الجمهور بموهبته ويتركهم في حالة من الدهشة والمتعة.
مسيرة فنية حافلة
بدأ بنقدور مسيرته الفنية في أواخر السبعينات، حيث شارك في مسرحية “عاشور” عام 1979، التي نال عنها جائزة أحسن ممثل، ليثبت موهبته المبكرة. كما أخرج ومثّل في مسرحية “السندباد” مع جمعية المسرح البلدي، التي اختيرت لتمثيل وجدة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بآسفي، محققة جوائز قيمة.
في السبعينات والثمانينات، عمل مع جمعية المسرح العمالي، حيث كان عنصرًا ديناميكيًا، يصمم الديكورات، يؤلف النصوص، ويخرج العروض.
بعد هجرته إلى فرنسا لمدة 15 عامًا، عاد إلى وجدة ليواصل عطاءه، مقدمًا أنشطة ثقافية في الهواء الطلق أمام البلدية، جذبت جمهورًا واسعًا، ومعرضًا عن تاريخ الحركة المسرحية في المنطقة الشرقية.
من أبرز إسهاماته تصميمه لسينوغرافيا مسرحيات مثل “اتركوا للوطن” و”دار لالة”، حيث كان يقدم مسودات دقيقة وصورًا تعكس رؤيته الفنية للخشبة والإضاءة.
كما أصر في سنواته الأخيرة على إنجاز عملين مع جمعية المسرح العمالي: “الملك لير” و”كان يا مكان”، لكنه واجه نقصًا في التجاوب من البعض، مما جعله يغادر “في صمت”.
إنسانية أذابت القلوب
“كان أخًا، ليس مجرد صديق”، هكذا تحدث عنه من عرفوه. كان بنقدور رجلاً مثقفًا، ملتزمًا، ينكر ذاته ليهدي الجمهور الفرجة والمتعة. كان يعمل بصمت، يساعد زملاءه دون انتظار مقابل، وصفه أحد زملائه بأنه “ينطفئ كالشمعة”، يهدي الجمهور الفرجة والمتعة بينما يتجاهل نفسه.
لم يحب الحديث عن الناس، وكان عزيزًا على كل من عاشره. هذه الإنسانية جعلته محبوبًا، لكنها لم تحمه من ألم الإهمال الذي عاناه كثير من الفنانين.
إرث عظيم وتقدير ناقص
رغم الجوائز التي حصدها، مثل جائزة أحسن عمل جماعي في مهرجان أكادير 1976، ورغم دوره الريادي في المنطقة الشرقية، لم ينل بنقدور حقه من التقدير. “أعطى الكثير ولم يأخذ حتى القليل” كما وصفه أحد المتحدثين، بينما صفه آخرون بأنه “ضحية” سياسة لا تقدر الفنانين، واقع جعل صرخته الفنية تظل حبيسة خربشاته.
شهادات زملائه، مثل يوسف غزالي، مصطفى بهراوه، حمداوي البكاي، د. سي الهارد، وعبد ربي مصوزي مصطفى، عكست حزنًا عميقًا وشوقًا لفنان كان بمثابة ركن أساسي لجمعية المسرح العمالي.
وداع مؤلم ودعوة للتأمل
حفل التأبين لم يكن مجرد مناسبة لرثاء فنان، بل كان صرخة لتذكير المجتمع بضرورة الاحتفاء بالفنانين في حياتهم. إبداعات بنقدور، من “عاشور” إلى “السندباد” و”كان يا مكان”، ستبقى منارة في تاريخ المسرح المغربي. لكن رحيله يترك جرحًا في قلوب محبيه، ودعوة لإعادة النظر في كيفية دعم الفنانين لئلا تتكرر قصص الإهمال.
ندعو له بالرحمة والمغفرة، وأن يسكنه الله فسيح جناته، ونأمل أن يكون إرثه حافزًا لتكريم المبدعين في حياتهم قبل أن ينطفئوا كالشموع.
ذا الحفل يعكس التزام الجمعية بالاحتفاء برموزها، ويذكّر بضرورة دعم الفنانين في حياتهم لضمان استمرار الإبداع.
خاتمة
محمد بنقدور لم يكن مجرد ممثل أو مخرج، بل كان رمزًا للإبداع والتفاني. إرثه في مسرحيات مثل “عاشور”، “السندباد”، و”كان يا مكان” سيظل خالدًا في ذاكرة المنطقة الشرقية.
رحيله يدعو إلى التفكير في كيفية دعم الفنانين ومنحهم حقهم في التقدير والتكريم في حياتهم، لكي لا تظل صرخاتهم، كما كانت صرخة بنقدور، صامتة. ندعو له بالرحمة والمغفرة، وأن يسكنه الله فسيح جناته.