حسني مبارك: من الريف المصري إلى قيادة الأمة – تأملات في مسيرة رئيس سابق

عبدالعالي الجابري – وجدة 3 يونيو 2025


في حوار نادر أجري مع الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك خلال فترة حكمه، كشف الرجل الذي قاد مصر لثلاثة عقود عن جوانب من حياته الشخصية ومسيرته العسكرية والسياسية، مُقدمًا رؤية فريدة لتحولاته من ابن قرية في المنوفية إلى قائد القوات الجوية في حرب أكتوبر 1973، ثم إلى رئيس الجمهورية.

هذا الحوار، الذي يعكس رؤيته لنفسه ولتاريخ مصر الحديث، يتيح فرصة لتحليل دوره في سياق التحديات التي واجهتها مصر، مع الأخذ في الاعتبار أن مبارك غادر السلطة في 11 فبراير 2011 إثر ثورة 25 يناير، وتوفي في 25 فبراير 2020، تاركًا إرثًا مثيرًا للجدل يستحق التأمل.

نشأة ريفية غرست قيم الانضباط والعمل

وُلد حسني مبارك عام 1928 في قرية كفر المصيلحة بمحافظة المنوفية، حيث عاش طفولة بسيطة تخضع لتقاليد الريف المصري الصارمة. يروي مبارك كيف كانت الحياة الريفية تتسم بالبساطة والاحترام المتبادل، حيث كان على الشاب أن يترجل عن دراجته ويسير بجانبها إذا مر أمام مجلس كبار القرية، وكيف كانت العادات تمنع تقديم أطعمة معينة أمام الأب احترامًا له. هذه القيم، التي شكلت شخصيته المبكرة، زرعت فيه الانضباط والاحترام للسلطة، وهما صفتان ستلازمانه في مسيرته العسكرية والسياسية.

تعليمه المبكر في المنوفية، رغم مشقة المشي لمسافات طويلة للوصول إلى المدرسة، عكس إصرارًا مبكرًا على التعلم. انتقل من المدرسة الثانوية إلى الكلية الحربية عام 1947، متأثرًا بجاذبية “القوة” و”الخدمة المميزة” التي رآها في الزي العسكري.

هذا القرار لم يكن مجرد اختيار مهني، بل كان نقطة تحول حاسمة، حيث وجد مبارك في المؤسسة العسكرية بيئة تتناسب مع قيمه الريفية من انضباط وجدية.

مسيرة عسكرية متميزة: من طيار إلى قائد حرب أكتوبر

مسيرة مبارك العسكرية، التي بدأت مع تخرجه من الكلية الحربية عام 1949، شهدت صعوده السريع في صفوف القوات الجوية. بعد تدريب مكثف، أصبح طيارًا مقاتلاً، ثم مدرسًا في الكلية الجوية، وصولاً إلى منصب قائد القوات الجوية عام 1972. هذه الفترة، التي شملت حروب 1956 و1967، كانت مليئة بالتحديات، لاسيما هزيمة 1967 التي وصفها مبارك بأنها “كابسة”، حيث شعر العسكريون بالإحباط والضرورة الملحة لاستعادة الكرامة الوطنية.

دوره في حرب أكتوبر 1973 كان ذروة مسيرته العسكرية. كقائد للقوات الجوية، أشرف على التخطيط والتدريب الدقيق الذي مهد للضربة الجوية الأولى التي فاجأت إسرائيل.

يصف مبارك هذه الفترة بأنها “مهمة وطنية”، حيث كان يزور القواعد الجوية بانتظام لتعبئة الطيارين والفنيين. النجاح في استعادة جزء من سيناء عزز مكانته كقائد عسكري، مما مهد لاختياره نائبًا للرئيس السادات عام 1975.

من العسكرية إلى السياسة: تحديات الرئاسة

انتقال مبارك إلى العمل السياسي كان مفاجئًا، كما يروي، حيث انتقل من زيارات القواعد الجوية إلى مكتب نائب الرئيس بين ليلة وضحاها. توليه الرئاسة عام 1981، بعد اغتيال السادات، جاء في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة.

واجه مبارك اقتصادًا منهكًا بفعل الحروب المتتالية، مع بنية تحتية مدمرة ونقص حاد في السلع الأساسية. استجابته كانت سريعة، حيث عقد مؤتمرًا اقتصاديًا عام 1982، أسفر عن خطة خمسية للإصلاح ركزت على تحسين مستوى معيشة المواطنين، إيجاد فرص عمل، وإعادة بناء البنية التحتية.

سياسيًا، حاول مبارك إدخال إصلاحات ديمقراطية، أبرزها تعديل المادة 76 من الدستور للسماح بانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة بتعدد المرشحين، في خطوة وصفها بأنها الأولى من نوعها في تاريخ مصر.

كما عمل على تعزيز دور البرلمان ومجلس الشورى، بهدف توزيع السلطة وتوسيع المشاركة السياسية. ومع ذلك، يرى مراقبون أن هذه الإصلاحات ظلت محدودة، حيث واجهت انتقادات بسبب استمرار هيمنة الحزب الوطني وتقييد الحريات السياسية.

إرث مبارك: بين الإنجازات والجدل

مسيرة مبارك، التي بدأت في الريف وامتدت إلى قيادة مصر، تعكس شخصية تجمع بين الانضباط العسكري والطموح السياسي. دوره في حرب أكتوبر جعله رمزًا وطنيًا، بينما حكمه الطويل شهد استقرارًا نسبيًا، لكنه لم يخلُ من التحديات.

الإصلاحات الاقتصادية التي قادها ساهمت في تحسين البنية التحتية وجذب الاستثمارات، لكنها واجهت انتقادات بسبب تفاقم الفجوة الاجتماعية وزيادة البطالة. سياسيًا، أثارت إصلاحاته جدلاً حول مدى جديتها في تعزيز الديمقراطية، حيث شهد عهده قمعًا للمعارضة وتقييدًا للحريات.

غادر مبارك السلطة عام 2011 تحت ضغط ثورة شعبية طالبت بالتغيير، ليتوفى بعدها في 2020، تاركًا إرثًا مثيرًا للنقاش. من جهة، يُنظر إليه كقائد عسكري ساهم في استعادة الكرامة الوطنية، ومن جهة أخرى، كرئيس أخفق في تحقيق طموحات شعبه نحو ديمقراطية حقيقية وعدالة اجتماعية.

هذا التناقض يعكس تعقيدات الحكم في بلد مثل مصر، حيث تتشابك التحديات الاقتصادية والسياسية مع إرث تاريخي ثقيل.

خاتمة

تظل مسيرة حسني مبارك شاهدة على تحديات قيادة أمة في سياق تاريخي مضطرب. من الريف إلى القصر الجمهوري، شكلت قيمه الريفية وخبرته العسكرية رؤيته للحكم، لكنها لم تكن كافية لمواجهة تطلعات شعب يبحث عن التغيير.

يبقى حواره النادر نافذة لفهم الرجل وراء القائد، ودعوة للتأمل في دروس الماضي لبناء مستقبل أفضل لمصر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!