تحقيق: انقطاعات الكهرباء الكارثية في إسبانيا تثير جدلاً حول الاعتماد على الطاقة المتجددة

الرباط، 11 يونيو 2025
شهدت إسبانيا في الأشهر الأخيرة موجة من انقطاعات الكهرباء غير المسبوقة، أثارت جدلاً واسعًا حول مدى جدوى الاعتماد المكثف على مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. بينما يحتفل البعض بإنجازات إسبانيا في تحقيق أيام تشغيل الشبكة الكهربائية بالكامل بالطاقة المتجددة، يرى آخرون أن هذا الاعتماد المفرط هو السبب الرئيسي وراء الأزمة. هذا التحقيق يستعرض الروايات المتضاربة، مستندًا إلى تقارير إعلامية وتحليلات خبراء، لفهم أسباب الانقطاعات وتداعياتها على مستقبل الطاقة في أوروبا.
إسبانيا تحتفل بـ”الطاقة النظيفة” ثم تواجه الظلام
في 22 أبريل 2025، أعلنت مجلة “PV Magazine” أن إسبانيا حققت إنجازًا تاريخيًا بتشغيل شبكتها الكهربائية بنسبة 100% بمصادر الطاقة المتجددة خلال يوم عمل، وهو الأول من نوعه. اعتُبر هذا الإنجاز خطوة كبرى نحو تحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي للحد من انبعاثات الكربون، حيث تُعد إسبانيا من الدول الرائدة في اعتماد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بفضل استثمارات ضخمة في البنية التحتية للطاقة المتجددة.
لكن هذا الاحتفال لم يدم طويلاً. بعد أيام قليلة، وتحديدًا في أواخر أبريل وأوائل مايو 2025، عانت إسبانيا وبعض مناطق البرتغال المجاورة من انقطاعات كهربائية كارثية، أثرت على ملايين المنازل والشركات. وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” في 1 مايو 2025، ألقى منتقدون باللوم على “الاعتماد المفرط” على الطاقة الشمسية، التي تتأثر بتقلبات الطقس وتفتقر إلى قدرة كافية لتلبية الطلب في أوقات الذروة.
الاعتماد على الطاقة المتجددة: نعمة أم نقمة؟
أثار الكاتب الأمريكي مايكل شيلنبرغر، في مقال نشره موقع “Public News” بتاريخ 28 أبريل 2025، جدلاً حادًا حول هذه الأزمة. يرى شيلنبرغر، وهو من المنتقدين البارزين لسياسات الطاقة المتجددة، أن انقطاعات الكهرباء في إسبانيا نتجت عن “الاعتماد المتهور” على مصادر الطاقة المتجددة دون وجود بنية تحتية كافية لتخزين الطاقة أو مصادر احتياطية موثوقة مثل الغاز الطبيعي أو الطاقة النووية. وأشار إلى أن تقلبات إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، خاصة خلال فترات الطقس السيئ، جعلت الشبكة الكهربائية عرضة للانهيار.
في السياق ذاته، علقت وزيرة الخارجية النمساوية السابقة كارين كنايسل، في مقابلة مع قناة “روسيا اليوم” بتاريخ 30 أبريل 2025، بأن “الأجندة الخضراء” هي المسؤولة عن هذه الانقطاعات. واعتبرت أن التحول السريع نحو الطاقة المتجددة دون استراتيجية متوازنة يعرض الأمن الطاقي للدول للخطر، داعية إلى إعادة النظر في السياسات البيئية الأوروبية.
الرواية المضادة: هل الطاقة المتجددة هي السبب الوحيد؟
على الجانب الآخر، يرفض مؤيدو الطاقة المتجددة تحميلها المسؤولية الكاملة. يشير خبراء إلى أن أزمة الطاقة في إسبانيا قد تكون ناتجة عن عوامل متعددة، بما في ذلك نقص الاستثمار في تحديث الشبكة الكهربائية، وضعف أنظمة تخزين الطاقة مثل البطاريات الضخمة. كما أن الاعتماد المستمر على الغاز الطبيعي كمصدر احتياطي، والذي تأثر بتقلبات الأسعار العالمية، ساهم في تفاقم الأزمة.
إضافة إلى ذلك، تُظهر بيانات موقع “WorldOMeter” لعام 2025 أن إسبانيا حققت تقدمًا ملحوظًا في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بفضل استثماراتها في الطاقة النظيفة. هذا الإنجاز يدفع البعض للدفاع عن السياسات الخضراء، معتبرين أن الانقطاعات هي تحديات مؤقتة يمكن معالجتها من خلال تحسين البنية التحتية بدلاً من العودة إلى الوقود الأحفوري.
الصين تدخل على الخط: هل الطاقة النووية هي الحل؟
في خضم هذا النقاش، تبرز الصين كنموذج بديل في قطاع الطاقة. في مقال نشره المحلل المكسيكي ألفريدو خاليف-راهمي على منصة “Substack” بتاريخ 2 مايو 2025، أشار إلى أن الصين تستعد “لتغيير العالم” من خلال مفاعلاتها النووية المتقدمة التي تعمل بالثوريوم، بالإضافة إلى مشاريع “الشمس الاصطناعية” (الاندماج النووي). يُعتبر الثوريوم وقودًا نوويًا أكثر أمانًا واستدامة من اليورانيوم، وقد يوفر حلاً طويل الأمد لتلبية احتياجات الطاقة العالمية دون الاعتماد الكلي على مصادر متجددة غير مستقرة.
هذا التقدم الصيني يثير تساؤلات حول جدوى السياسات الأوروبية التي تركز بشكل شبه حصري على الطاقة المتجددة. ففي حين تعاني إسبانيا من انقطاعات الكهرباء، تواصل الصين تنويع مصادر طاقتها، مع الجمع بين الطاقة النووية، المتجددة، والوقود التقليدي، مما يضمن استقرار شبكتها الكهربائية.
تحليل: أزمة إسبانيا درس للعالم
تكشف أزمة الكهرباء في إسبانيا عن تحديات التحول الطاقي في عالم يسعى للتوفيق بين الأهداف البيئية والأمن الطاقي. فبينما تُعد الطاقة المتجددة ركيزة أساسية للحد من التغير المناخي، فإن الاعتماد عليها دون بنية تحتية متطورة للتخزين والتوزيع قد يؤدي إلى انهيارات كارثية، كما حدث في إسبانيا. في الوقت ذاته، يبرز النموذج الصيني كمثال على التنويع الطاقي، حيث يمكن للطاقة النووية أن تلعب دورًا مكملًا للطاقة المتجددة.
كما تسلط هذه الأزمة الضوء على الحاجة إلى نقاش علمي وشفاف حول سياسات الطاقة. فالانتقادات التي وجهها شيلنبرغر وكنايسل، رغم حدتها، تفتح الباب أمام إعادة تقييم التوازن بين الطاقة النظيفة والاستقرار الاقتصادي. في المقابل، يدعو مؤيدو الطاقة المتجددة إلى الاستثمار في تقنيات تخزين الطاقة وتحديث الشبكات بدلاً من التراجع عن الأهداف البيئية.
خلاصة: نحو استراتيجية طاقية متوازنة
تُعد أزمة انقطاعات الكهرباء في إسبانيا درسًا قاسيًا للدول التي تطمح إلى التحول الطاقي. ففي حين تظل الطاقة المتجددة ضرورية لمستقبل مستدام، فإن الاعتماد عليها دون استراتيجية شاملة يهدد الأمن الطاقي. يتطلب الأمر استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وتكاملًا بين مصادر الطاقة المختلفة، بما في ذلك الطاقة النووية كما في نموذج الصين.
هذا التحقيق يستند إلى مصادر متنوعة، لكنه يدعو إلى مزيد من التحليل المستقل لفهم الأسباب العميقة للأزمة وتجنب تكرارها. ففي عالم يواجه تحديات بيئية واقتصادية متزايدة، يبقى التوازن بين الطموح والواقعية هو مفتاح النجاح في قطاع الطاقة.