بشعار “التحدي للجميع”: ندوة قضائية تحذّر من عنف نسائي “مقبول مجتمعياً” يهدد البناء الأسري ويواجه بإثبات “ضعيف”!
1. ندوة جرادة تفجّر الأرقام: %64 من ضحايا الابتزاز الرقمي يفضلن الصمت خوفاً من الفضيحة.. والقانون بين النص والواقع!

جرادة، 3 دجنبر 2025
بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء الذي يصادف 25 نوفمبر من كل عام، وفي إطار الحملات العالمية والوطنية الممتدة حتى 10 دجنبر (اليوم العالمي لحقوق الإنسان)، نظمت رئاسة النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بجرادة ندوة علمية قيّمة. وقد جاء اللقاء تحت شعار “التحدي للجميع”، وتمحور موضوعه حول “الآليات والضمانات القانونية لحماية المرأة من العنف المبني على النوع الاجتماعي: بين النص القانوني والواقع العملي”.
شهدت الندوة حضوراً وازناً، شمل السيد عامل إقليم جرادة، السيد رئيس المحكمة، السيدة وكيلة الملك، فضيلة رئيس المجلس العلمي، عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة، وممثلي الأجهزة الأمنية والمجتمع المدني. وقد أكدت المداخلات على أن النهوض بالمرأة وتمكينها يمثل أمراً حتمياً للمساهمة الفعالة في تنمية البلاد وإزاحة كل المعيقات التي تعترضها.
أولاً: التشريع الملكي والمقاربة الحقوقية الشاملة
أكدت السيدة وكيلة الملك، كريمة الإدريسي، في كلمتها الافتتاحية أن تنظيم هذا اللقاء يستجيب للتوجهات الملكية السامية الداعية إلى حماية المرأة وصيانة حقوقها، وترسيخ مبدأ المناصفة والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. وقد أفضت هذه التوجيهات إلى إصلاحات تشريعية كبرى، شملت إصدار مدونة الأسرة واعتماد دستور 2011.
أشارت السيدة وكيلة الملك إلى أن المشرع المغربي أصدر القانون رقم 103.13 لمكافحة العنف ضد النساء، والذي شكّل قفزة نوعية لاعتماده مقاربة حقوقية ليست زجرية فحسب. هذه المقاربة تقوم على أربعة أبعاد متكاملة هي: الوقاية، الحماية، الزجر، والتكفل. وقد واكبت رئاسة النيابة العامة هذه المستجدات بإصدار مناشير ودوريات، مثل المنشور 1/2017 والدورية 32/2018، بهدف ضمان التنزيل السليم للقانون وحماية الفئات الهشة. داعية في الاخير الى ضرورة تكثيف الجهود وتعزيز التنسيق بين جميع المتدخلين—بمن فيهم المجتمع المدني الذي يلعب دوراً حيوياً في التكفل والمرافعة—للحد من الظاهرة، لأن “التحدي للجميع”، في سبيل بناء مجتمع آمن يسوده التعايش السلمي.
من جانبه، استعرض السيد رئيس المحكمة (بصفته) مظاهر الحماية القانونية للمرأة، مؤكداً أن الدستور ينص على حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، ويضمن المساواة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاجتماعية. كما سعى المشرع في مدونة الأسرة إلى تحقيق المساواة، كتوحيد سن الزواج في 18 سنة وتقرير استقلال الذمة المالية للزوجين.
ومع ذلك، أشار رئيس المحكمة إلى أن هذا الموضوع قديم ومتجدد، وأن الحلول التي نتوصل إليها غالباً ما تُعتبر محدودة لأن مكافحة الظاهرة تتطلب تغيير “نمط ثقافي اجتماعي يصعب تغييره”. وأكد أن ما يصل إلى المحاكم هو فقط “ذلك النصف الظاهر من جبل الجليد” (الرقم الأبيض)، بينما يبقى “الرقم الأسود” (حالات العنف غير المبلّغ عنها) أكبر بكثير ويصعب الإحاطة به.
ثانياً: العنف الرقمي.. بين السرعة و”الصمت الرقمي”
شغل العنف الرقمي حيزاً كبيراً من النقاش، حيث وصفه الدكتور إدريس دريوشي، عميد كلية العلوم القانونية بوجدة، بأنه “ظاهرة مجتمعية حقيقية” . وأوضح أن العنف الرقمي يشمل أفعالاً مؤذية عبر التكنولوجيا كالابتزاز والتشهير والتحرش واختراق المواقع. وتكمن خطورته في سماته الفريدة: السرعة والانتشار والأثر الرقمي الدائم. وحذر الدكتور دروجي من أن سرعة تطور الظاهرة تسبق أحياناً سرعة التشريع، مما يجعل الأمر خارج السيطرة. كما تطرق إلى أنماط خطيرة مثل الاستمالة (Grooming) التي تستهدف القاصرات لأغراض جنسية عبر شبكات التواصل والدردشة.
وتعميقاً لهذا المحور، عرض السيد جمال الياني، ممثل المديرية العامة للأمن الوطني (DGSN)، الإكراهات الأمنية والثقافية. أكد الياني أن البعد الاجتماعي والثقافي يمثل أكبر معيق، إذ أن النظرة المجتمعية للمرأة كـ “عرض وشرف” تولد نوعاً من “الرقابة الذاتية” وتدفع الضحايا إلى “الصمت الرقمي”. واستعرض نتائج دراسة ميدانية صادمة أظهرت أن 64% من النساء اللاتي تعرضن للابتزاز الرقمي لم يقمن بتبليغ السلطات، خوفاً من الفضيحة ومن ردود فعل الأسرة أو المجتمع.
وفي مواجهة هذا، تفاعلت المديرية العامة للأمن الوطني بشكل إيجابي عبر تحديث بنيتها وتكوين فرق متخصصة [55، 59]. وأبرز الياني دور منصة “إبلاغ” الرقمية التي أُطلقت في يونيو 2021 لتلقي تبليغات المواطنين بسرية وأمان. وقد تلقت هذه المنصة 12,614 تبليغاً حتى عام 2024. كما سجلت المديرية 2,740 قضية تحرش رقمي.
ومع ذلك، أشار ممثل الأمن الوطني إلى أن المنظومة الأمنية تواجه تحديات تقنية كبرى، أبرزها صعوبة الإثبات الرقمي وضعف السيادة الرقمية، مشدداً على أن ضعف التعاون مع المنصات الأجنبية (مثل فيسبوك وإنستغرام) يشكل عائقاً أساسياً، لكونها لا تخضع للقانون المغربي إلا في حدود ضيقة، مما يعيق التحقيقات.
ثالثاً: تحديات الواقع العملي: الإثبات، التكفل، والهشاشة الاقتصادية
أجمع المتدخلون على أن فعالية النصوص القانونية تظل رهينة بمدى نجاح تنزيلها على أرض الواقع، وهو ما تبرز فيه تحديات جسيمة:
1. مشكلة الإثبات في الفضاء الخاص: أكدت المداخلات، ومنها مداخلة مركز الاستماع، أن مشكلة إثبات العنف تظل مطروحة بقوة، خاصة أن أغلب حالات العنف تقع في الفضاء الخاص (بيت الزوجية). وقد يؤدي غياب الدليل الكافي أو قيام الضحية بحذف الأدلة خوفاً من العائلة إلى حفظ الشكايات لعدم الإثبات.
2. أولوية العنف النفسي والاقتصادي: عرضت السيدة زهره قاسمي، رئيسة جمعية الأمل للتنمية الاجتماعية والثقافية، إحصائيات مركز الاستماع بجرادة لسنة 2024، والتي كشفت أن العنف الاقتصادي (24 حالة) والعنف النفسي (20 حالة) يتصدران أشكال العنف المسجلة.
3. ضعف الدعم المادي ومراكز الإيواء: أشارت قاسمي وآخرون إلى أن نقص الدعم المادي للمُعنّفات يعيق متابعتهن لملفاتهن القانونية. كما سُلط الضوء على تحدي مراكز الإيواء، حيث أكد السيد العباسي (المكلف بالخلية القضائية) وآخرون أن مدة الإيواء غالباً ما تقتصر على 10 أيام كحد أقصى، وهي مدة غير كافية لتمكين الضحية.
4. دور قطاع الشباب والتواصل: قدمت صوفيا الشريفة بكاوي مداخلة عن دور المديرية الجهوية لقطاع الشباب، مؤكدة على ضرورة التمكين الاقتصادي عبر تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية (في ريادة الأعمال) لمواجهة العنف الاقتصادي. كما أكدت أن المديرية أنشأت خلايا استماع لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي داخل مؤسساتها.
رابعاً: التوازن الأسري ومسؤولية الجميع
خلال المناقشة، طُرح إشكال التوفيق بين الحماية القانونية وتماسك الأسرة (التوازن الأسري)، خاصة فيما يتعلق بتجريم طرد الزوج من بيت الزوجية. وأكد المتدخلون أن العلاقة بين المرأة والرجل يجب أن تقوم على أساس التكاملية، وأن الخطابات التي تؤجج الصراع بينهما هي “كتابات مغلوطة”.
دعت الندوة إلى تعزيز دور المؤسسات الوقائية؛ فبالإضافة إلى دور الأسرة والمدرسة، دعا أحد المتدخلين إلى تفعيل دور المجلس العلمي (الحقل الديني)، لكونه يمتلك قوة تأثير على الرجل للتخلي عن العنف كأحد أنماط التعامل.
وفي الختام، يمكن القول ان الندوة جسدت الصراع القانوني-الاجتماعي في المغرب في مواجهة العنف ضد المرأة. إذا كانت النصوص القانونية (مثل القانون 103.13) تمثل أسلحة حديثة ضرورية لمكافحة العنف، فإن هذه الأسلحة لا تستطيع لوحدها اختراق الحصن الثقافي والاجتماعي. فالثقافة المجتمعية التي ترى المرأة “شرفاً” وتفرض “الصمت الرقمي”، تشبه قفلاً فولاذياً يمنع القانون من ممارسة سلطته، مما يؤدي إلى ضياع %64 من القضايا في منطقة “الرقم الأسود” غير المبلّغ عنه. لذلك، كان الاتفاق على أن المقاربة الوقائية (المدرسة والأسرة والمؤسسة الدينية) يجب أن تسبق وتوازي المقاربة الزجرية والقضائية.









