“اليهودية المسيحية”: تشريح خطاب الهوية الحصري وتأثيراته على العلاقة بالآخر

في حوار أجرته الصحفية سمية بن عيسى مع المؤرخة والباحثة صوفي بيسيس ضمن برنامج “نفس الإخبار” على قناة BLAST يوم 26 مايو 2025، تناولت بيسيس كتابها الجديد “الحضارة اليهودية المسيحية: تشريح عملية احتيال“، الذي يناقش جدليّة “الحضارة اليهودية المسيحية” وتأثيرها على العلاقة بالآخر، خاصة في سياق الإسلام والصراعات المعاصرة. يقدم هذا التقرير تحليلًا شاملًا للمحاور الرئيسية التي تناولتها بيسيس، مع التركيز على السياق التاريخي والسياسي والثقافي.

1- المقدمة: سياق الحوار

الحوار، الذي أُجري في إطار برنامج إخباري يهدف إلى استكشاف القضايا الجيوسياسية والثقافية، يسلط الضوء على كيفية استخدام مصطلح “الحضارة اليهودية المسيحية” في الخطاب السياسي والإعلامي على مدى الأربعين عامًا الماضية.

تُعتبر بيسيس، المؤرخة التونسية البارزة، صوتًا نقديًا في تحليل الروايات التاريخية والسياسية، وكتابها يهدف إلى كشف ما تصفه بـ”عملية احتيال” في هذا المصطلح.

2- تحليل مصطلح “الحضارة اليهودية المسيحية”

النشأة والانتشار

يُشير النص إلى أن مصطلح “الحضارة اليهودية المسيحية” كان له استخدامات أكاديمية ولاهوتية محدودة في الماضي، لكنه بدأ يغزو اللغة السياسية منذ الثمانينيات. أصبح شائعًا بين شخصيات سياسية بارزة مثل نيكولا ساركوزي، إيمانويل ماكرون، وبنيامين نتنياهو، وجوردان بارديلا، مما يعكس هيمنته في الفضاء العام. يُصف هذا المصطلح بأنه “تعويذة” (mantra) تُستخدم لتأطير الهوية الغربية.

النقد: أداة للتضليل

ترى بيسيس أن هذا المصطلح هو أداة للتضليل، حيث يخفي تاريخ أوروبا من معاداة السامية، الذي بلغ ذروته في المحرقة النازية التي أودت بحياة أكثر من 80% من يهود أوروبا. يسمح هذا المصطلح للغرب بادعاء التفوق الأخلاقي بعد المحرقة من خلال دعم إسرائيل، مما يُعتبر محاولة لـ”غسل يديهم من جريمتهم الكبرى“. مؤكدة إلى أن هذا الدعم يهدف إلى جعل إسرائيلالضحية الأبدية“، مما يبرر سياساتها بغض النظر عن أفعالها.

استبعاد الإسلام

أحد الجوانب الأساسية في نقد بيسيس هو استبعاد الإسلام، رغم كونه الديانة التوحيدية الثالثة. يُذكر الحوار أن التوحيد الإبراهيمي يقوم على ثلاثة أعمدة: اليهودية، المسيحية، والإسلام (حسب الترتيب الزمني).

ومع ذلك، يُصف استخدام “الحضارة اليهودية المسيحية” بأنه “مقعد أعرج” لأنه ينقصه الركن الثالث. يُشير النص إلى أن اليهودية والإسلام أقرب إلى بعضهما البعض في بعض النواحي الدينية، مثل وجود شخصيات الأنبياء في القرآن كقراءة للكتاب المقدس، لكن مؤيدو المصطلح ينكرون كون الإسلام دينًا إبراهيميًا.

3- تأثير الخطاب على العلاقات بين الغرب والشرق

الاستبعاد والتصوير السلبي

يؤثر استخدام مصطلح “الحضارة اليهودية المسيحية” على تصور العلاقات بين الغرب والشرق من خلال استبعاد الإسلام وتصويره كـ”الآخر البربري“. يخدم هذا الخطاب خطاب “صدام الحضارات“، حيث تصوَّر العالم العربي والإسلامي كتهديد، مما يبرر الدعم الغربي لإسرائيل، خاصة في سياق الصراع في غزة.

كما تذكر أن قادة مثل نتنياهو استخدموا هذا الخطاب صراحة، قائلين: “نصرنا هو انتصار الحضارة اليهودية المسيحية ضد البربرية“.

طمس الأصل الشرقي

يُشير النص إلى أن التوحيد هو “اختراع شرقي“، وليس غربيًا، حيث نشأت التوراة والقرآن في الشرق. ومع ذلك، يسمح مصطلح “الحضارة اليهودية المسيحية” للغرب بالاستيلاء على هذا التراث، مما يُوحي بأن “كل شيء يأتي منا“. هذا الطمس يشوّه التاريخ المعقد للعلاقات بين أوروبا المسيحية والعالم الإسلامي، الذي شمل العداوة والتحالفات على مدى 14 قرنًا.

التبرير السياسي

يُعتبر هذا المصطلح أداة سياسية تُستخدم لتبرير السياسات الغربية، مثل الدعم شبه غير المشروط لإسرائيل. يُشير النص إلى أن هذا الدعم يهدف إلى استعادة التفوق الأخلاقي المزعوم للغرب بعد المحرقة، مع تجاهل تاريخ معاداة السامية الأوروبية.

4- الصهيونية: مشروع استعماري وتأثيراته

السياق التاريخي

تُعتبر الصهيونية الحديثة، وفقًا لبيسيس، مشروعًا قوميًا استعماريًا أوروبيًا، تأسست في سياق القرن التاسع عشر، عصر الاستعمار والإمبريالية. كما ذكرت أن تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، رأى في الدولة اليهودية “معقلًا متقدمًا للغرب في أرض البربرية“. يُرتبط هذا السياق بفكرة “تحضير البرابرة”، التي كانت تبرر الاستعمار.

دور المحرقة

يُشير النص إلى أن المحرقة (الجوداسيد) غيرت كل شيء، حيث كانت قيام دولة إسرائيل “نتيجة مباشرة بلا منازع للإبادة”. قبل المحرقة، كانت غالبية اليهود معارضين للصهيونية، لكن بعد إبادة 6 ملايين يهودي (80% من يهود أوروبا)، شعر العديد من اليهود بالحاجة إلى “أمة خاصة“.

ومع ذلك، تنتقد بيسيس تحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية “ذنب أوروبا”.

الدعم الغربي والتحالفات

يمتد الدعم الغربي لإسرائيل إلى “دعم شبه غير مشروط لسياستها“، ويرتبط بمحاولة أوروبا غسل يديها من جريمة المحرقة. يُذكر الحوار أيضًا تحالفًا بين اليمين المتطرف الغربي واليمين المتطرف الإسرائيلي، القائم على رؤية إثنية-دينية للدولة ورفض التعددية، مع تحديد العالم العربي الإسلامي كعدو مشترك.

5- معاداة السامية: بين التاريخ والسياسة

التاريخ والمحرقة

تُعتبر معاداة السامية ظاهرة تاريخية طويلة، حيث كان اليهود يُنظر إليهم كـ”آخر شرقي” في أوروبا قبل القرن التاسع عشر. بلغت ذروتها في المحرقة، التي أبادت 6 ملايين يهودي، مما غير تصور اليهود لأنفسهم ودفع إلى قيام إسرائيل.

الخلط بين المفاهيم

تنتقد بيسيس الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، واصفة إياه بـ”فضيحة مطلقة“. تُشير إلى أن أول معادي الصهيونية كانوا يهودًا، وأن هذا الخلط يُستخدم للدفاع عن صفة “الضحية” لإسرائيل، مما يمنع النقد. يُذكر أيضًا تحولًا من “معاداة السامية الهذائية” إلى “فيلوسامية مدهشة“، حيث يُنظر إلى اليهود كـ”استثنائيين” دائمًا.

6- العلاقة بالشرق: بين الاستبعاد والتشرق

الشرق كـ”آخر”

يُعتبر الشرق مفهومًا مُنشأً في المخيلة الغربية، حيث كان اليهود يُنظر إليهم كـ”شرقيين” قبل اكتساب حقوق المواطنة. يُرتبط الشرق بـ”أرض البربرية” في سياق الصهيونية، حيث أرادت إسرائيل أن تكون “قطعة من الغرب في قلب الشرق“، لكن بيسيس ترى أن “التشرق” ضروري لإيجاد حل مستقبلي.

التوحيد الشرقي

يُؤكد الحوار أن التوحيد هو “اختراع شرقي“، وأن مفهوم “الحضارة اليهودية المسيحية” يطمس هذا الأصل، مستبعدًا الإسلام رغم قربه من اليهودية. يُشير إلى أن يهود الشرق، مثل إسبانيا اليهودية المسلمة، ساهموا بشكل كبير في الحضارة، لكن تم تجاهلهم.

7- التبعات الحالية والمستقبلية

التأثير الحالي

يؤدي خطاب الهوية الحصري إلى تأطير الصراع كـ”صراع حضارات“، مما يبرر الدعم لإسرائيل ويطمس التاريخ المعقد. يدعم أيضًا تحالفات بين اليمين المتطرف الغربي والإسرائيلي، مع استبعاد “الآخر” وتهميشه.

المستقبل

يُحذر النص من أن هذا الخطاب سيجعل “الصدوع الحالية غير قابلة للشفاء“، مانعًا قراءة تاريخية شاملة وداعمًا “رواد الهوية” الذين يرفضون السلام والتعددية.

8- جدول: مقارنة بين الديانات التوحيدية

الجانباليهوديةالمسيحيةالإسلام
الأصل الجغرافيالشرق الأوسطالشرق الأوسطالشرق الأوسط
العلاقة بالكتاب المقدسالتوراةيبني على التوراةالقرآن يقرأ التوراة
التشابهات الدينيةقريب من الإسلاميُعتبر امتدادًاقريب من اليهودية
الدور في التوحيدالأساسالامتدادالركن الثالث

خاتمة

يُظهر هذا التحليل أن مصطلح “الحضارة اليهودية المسيحية” ليس مجرد وصف تاريخي، بل أداة سياسية تؤثر على العلاقات الدولية والثقافية. يدعو حوار بيسيس إلى تفكيك هذا الخطاب لفهم تاريخي أكثر شمولية، مما قد يساهم في بناء مستقبل يحترم التنوع والتعايش.


المصادر الرئيسية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!