المشاركة السياسية في المغرب: بين أزمة الشرعية وهيمنة “مول الشكارة”

يحيى تيفاوي* – جرادة، 10 يونيو 2025
في سياق مغربي يشهد تحولات سياسية واجتماعية عميقة، يبرز النقاش حول المشاركة السياسية كتحدٍ مركزي يواجه دوائر صنع القرار. يرتبط هذا النقاش ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الشرعية السياسية، التي تُعدّ حجر الزاوية في بناء ديمقراطية حقيقية. لكن، هل تتيح الأطر السياسية والقانونية الحالية في المغرب فرصاً متكافئة للجميع؟ وكيف أسهمت العوامل السوسيوسياسية في تشكيل مشهد سياسي يعاني من إعطاب بنيوية؟ .
تاريخياً، شهد المغرب اجتهادات سياسية لتعزيز المشاركة السياسية، مثل دعم مشاركة النساء والشباب، استجابة لظروف موضوعية وذاتية فرضها السياق السياسي. لكن هذه الجهود، كما يظهر من تحليل المشهد، كانت غالباً ردود فعل مرحلية، تفتقر إلى رؤية مستقبلية شاملة. فقد أعاقت عوامل سوسيوسياسية، مثل ضعف الثقافة السياسية في المجتمع، تحقيق مشاركة شعبية حقيقية. يتجلى ذلك في تعامل المواطنين مع الانتخابات كحدث موسمي، دون وعي كافٍ بتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على النظام السياسي.
أحد الأسئلة الجوهرية التي تطرح نفسها هي: هل يتمتع جميع المغاربة بحق الترشح المكفول دستورياً؟ وعلى وجه الخصوص، هل توفر الأحزاب السياسية آليات تكافؤ الفرص لترشيح الكفاءات القادرة على إدارة المؤسسات المنتخبة؟ الإجابة، للأسف، تكشف عن إعطاب بنيوية تعود إلى تركات الماضي، حيث تُهيمن ثقافة “الأعيان” و”مول الشكارة” على المشهد السياسي، مما يقوض مبدأ الكفاءة ويحد من تحقيق العدالة الاجتماعية.
في قلب الأزمة السياسية المغربية، تبرز ظاهرة “مول الشكارة“، التي تُجسد الفاعل السياسي الذي يعتمد على المال الرمادي للوصول إلى المناصب السياسية. هذا النمط من السلوك السياسي، الذي يتجاوز معايير تكافؤ الفرص والقانون، أصبح العامل الحاسم في صناديق الاقتراع. فبدلاً من أن تكون الانتخابات انعكاساً للإرادة الشعبية، تحولت في كثير من الأحيان إلى ساحة لنفوذ المال والعلاقات، مما أدى إلى تمييز واضح بين أفراد المجتمع في الوصول إلى المناصب.
هذه الظاهرة ليست مجرد انحراف فردي، بل تعكس إشكاليات بنيوية أعمق، مثل غياب الرقابة الفعالة على مصادر تمويل الحملات الانتخابية. ففي ظل ضعف الآليات القانونية والمؤسساتية، يتمكن “مول الشكارة” من فرض نفسه كفاعل سياسي رئيسي، متجاوزاً الأحزاب السياسية التي تُفترض بها أن تكون بوابة الترشح العادل. هذا الواقع يطرح تساؤلاً جوهرياً: كيف يمكن بناء ديمقراطية حقيقية في ظل هيمنة المال على العملية السياسية؟
تفاقم هذه الأزمة بسبب عدم التوازن في المؤسسات المنتخبة، التي تعاني من تقليدية الأطر الإدارية المشرفة على الانتخابات. في الديمقراطيات الحديثة، تُشرف لجان مستقلة على العملية الانتخابية لضمان الحيادية، لكن في المغرب، يبقى الجهاز الحكومي، تحت وصاية رئيس الحكومة، هو المشرف على الانتخابات. هذا الوضع يثير تساؤلات حول استقلالية العملية الانتخابية، خاصة أن رئيس الحكومة نفسه فاعل سياسي منتج من صناديق الاقتراع.
علاوة على ذلك، تتحكم الأحزاب السياسية الكبرى، التي غالباً ما تهيمن عليها الأعيان، في التزكيات الانتخابية، مما يحد من فرص الكفاءات الشابة أو الجديدة. هذا الواقع يعزز من ظاهرة “الحجز السياسي” للفرص، حيث تُمنح الأولوية لمن يملكون النفوذ أو الموارد المالية، بدلاً من الكفاءة أو الرؤية السياسية.
من أبرز العوائق التي تواجه المشاركة السياسية في المغرب هو انعدام الثقافة السياسية في بنية المجتمع. فالانتخابات، التي تُفترض أن تكون آلية للتعبير عن الإرادة الشعبية، غالباً ما تُختزل إلى حدث موسمي يفتقر إلى وعي جماعي بأهميته. هذا الوضع يعود إلى عوامل تاريخية واجتماعية، مثل تركات الماضي من هيمنة الأعيان، وغياب برامج توعية سياسية شاملة.
النتيجة هي تراجع الثقة في الأحزاب السياسية، التي أصبحت تُنظر إليها كمؤسسات نخبوية بعيدة عن هموم الشعب. هذا الواقع يعيق بناء مشاركة سياسية شعبية واسعة، قادرة على تأسيس شرعية اجتماعية تقوم على العدالة وتكافؤ الفرص.
للخروج من هذا المأزق، يتطلب الأمر إصلاحات جذرية تشمل عدة محاور. أولاً، يجب تعزيز استقلالية المؤسسات المشرفة على الانتخابات من خلال إنشاء لجنة مستقلة، بعيداً عن النفوذ الحكومي. ثانياً، ينبغي تفعيل آليات رقابة صارمة على تمويل الحملات الانتخابية للحد من هيمنة المال الرمادي. ثالثاً، هناك حاجة ماسة إلى تعزيز الثقافة السياسية عبر برامج توعية وتثقيف، تستهدف الشباب والفئات المهمشة لتشجيعهم على المشاركة الفعالة.
كما أن الأحزاب السياسية مدعوة إلى إعادة هيكلة آليات ترشيح الكفاءات، مع إعطاء الأولوية للكفاءة والرؤية السياسية بدلاً من النفوذ المالي أو الاجتماعي. هذه الخطوات، إذا ما تم تطبيقها، قد تساهم في بناء مشهد سياسي يعكس الإرادة الشعبية، ويعزز من الشرعية الاجتماعية والسياسية.
المشاركة السياسية في المغرب تواجه تحديات بنيوية عميقة، تتراوح بين هيمنة “مول الشكارة”، ضعف الثقافة السياسية، وتقليدية المؤسسات. في ظل هذا الواقع، يصبح السؤال عن تكافؤ الفرص والشرعية السياسية أكثر إلحاحاً. لكن الأمل يبقى قائماً في قدرة المجتمع المغربي على تجاوز هذه العوائق، من خلال إصلاحات مؤسساتية وتفعيل مشاركة شعبية واسعة. فبدون هذه الخطوات، سيظل المشهد السياسي رهينة تركات الماضي، بعيداً عن طموحات ديمقراطية حقيقية تعكس إرادة المواطنين وتضمن عدالة التمثيل.
- يحيى تيفاوي : باحث في قضايا المجتمع المدني و السياسي