المرأة في تاريخ الفلسفة: إعادة قراءة الإرث وتفكيك الأساطير

تظل مكانة المرأة في تاريخ الفلسفة موضوعًا مثيرًا للجدل، يكشف عن تناقضات عميقة بين الإسهامات الفعلية للنساء والصورة النمطية التي صيغت عنهن عبر العصور. تقدم الدكتورة لينا جزراوي، في محاضرتها على قناة الفينيق، قراءة نقدية لهذا الإرث، مبرزةً كيف ساهمت الفلسفة نفسها في تهميش المرأة، وكيف يمكن للمنهج النسوي أن يعيد صياغة هذا التاريخ لإنصاف قدراتها العقلية.

الصورة النمطية: العقل الأنثوي وأسطورة العاطفية

منذ العصور القديمة، سادت فكرة أن عقل المرأة أقل كفاءة من عقل الرجل، وأن عاطفيتها تجعلها غير مؤهلة للتفلسف، الذي يُعتبر عملية عقلية بحتة. أرسطو، “المعلم الأول”، وضع حجر الأساس لهذه النظرة بتأكيده أن المرأة “رجل ناقص”، مهمتها الأساسية الإنجاب والرعاية، مرجعًا ذلك إلى “طبيعتها” البيولوجية. هذه الفكرة، التي اعتبرت الأنوثة عجزًا والرجولة اكتمالًا، تبناها فلاسفة عبر العصور، من أفلاطون الذي أسف لكونه “ابن امرأة”، إلى سقراط الذي شبه المرأة بشجرة مسمومة، وصولًا إلى فلاسفة العصور الوسطى مثل أبو حامد الغزالي الذي قصر دور المرأة على المنزل، وبولس الرسول وترتليان اللذين حملاها مسؤولية الخطيئة الأولى. حتى في العصر الحديث، كرر كانط أن عقل المرأة لا يرقى إلى عقل الرجل، ودعا نيتشه إلى “عدم نسيان السوط” عند التعامل مع النساء، بينما رأى روسو أن المرأة لم تُخلق للعلم بل لإشباع غرائز الرجل.

هذه التصورات، التي انتقلت من الفلسفة إلى المجتمع، شكلت أرضية خصبة لتكريس النظرة الدونية للمرأة، ليس فقط في الفكر الفلسفي، بل في الأنساق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومع ذلك، تؤكد الدكتورة جزراوي أن العقل لا جنس له، وأن القدرات الفكرية تعتمد على التجارب والتربية، وليس على البيولوجيا. دراسات علمية حديثة تدعم هذا الرأي، إذ لم تثبت أي فروقات جوهرية في تركيب الدماغ أو حجمه تؤثر على القدرة العقلية بين الجنسين.

تغييب الفيلسوفات: عوامل تاريخية واجتماعية

غياب الفيلسوفات عن تاريخ الفلسفة لا يعني عدم وجودهن، بل يعكس عوامل تاريخية واجتماعية همّشت إسهاماتهن. منذ أثينا القديمة، التي كانت مركزًا للفكر، كانت المرأة ممنوعة من المشاركة في الأدوار السياسية أو الثقافية، وحُصرت في الإنجاب ورعاية الأسرة. الهيمنة الذكورية على المؤسسات الفكرية والتعليمية، مثل الجامعات والحلقات الفلسفية، حالت دون وصول النساء إلى التعليم أو إنتاج المعرفة. حتى عندما كتبت النساء نصوصًا فلسفية، أُهملت أعمالهم أو نُسبت إلى رجال، أو صُنفت كأدبية بدلاً من فلسفية، كما حدث مع سيمون دي بوفوار. الرقابة الذاتية والمجتمعية أجبرت الكثيرات على الكتابة بأسماء مستعارة أو التخلي عن النشر خوفًا من الرفض.

تضاف إلى ذلك التصورات الثقافية والدينية التي صوّرت المرأة كعاطفية وغير عقلانية، مما استبعد حضورها من مجال الفلسفة. التاريخ نفسه، الذي كُتب بأقلام رجال، تجاهل إسهامات الفيلسوفات أو قلل من شأنهن. على سبيل المثال، ظهرت نساء مثل ثيانو، زوجة فيثاغورس، التي طورت أفكارًا ميتافيزيقية، وأريغونت وميا، ابنتي فيثاغورس، اللتان كتبتا عن الآلهة والتناغم، وأسبازيا التي علّمت سقراط فن البيان، وديوتيما التي ألهمته في فلسفة الحب، وهيباتيا الإسكندرية التي رأست المدرسة الأفلاطونية، وجوليا دومنا التي لُقبت بـ”الفيلسوفة”. هؤلاء، وغيرهن، قدمن إسهامات جوهرية، لكنهن أُغفلن عن قصد.

النسوية والمنهج الفلسفي: إعادة كتابة التاريخ

تعتمد الفلسفة النسوية على المنهج الفلسفي لتحليل هذا التهميش وتفكيك الأساطير حول قدرات المرأة. فكرة أن الفلسفة مجال ذكوري بالأساس تُدحض بوجود نماذج نسائية قيادية وعقلانية مثل مارغريت تاتشر وبنظير بوتو، مما ينفي الادعاءات حول العاطفية المطلقة أو نقص العقل. النسوية لا تسعى فقط للكشف عن الإسهامات المنسية، بل لتغيير التصورات المجتمعية التي تحد من إمكانيات المرأة. فالمرأة، التي أُجبرت تاريخيًا على أدوار الرعاية، أثبتت عقلانيتها في إدارة مؤسسات معقدة كالأسرة، بل وفي بعض الحالات، تفوقت في ضبط النفس مقارنة بالرجل.

آثار النظرة الدونية اليوم

النظرة الدونية التاريخية للمرأة تستمر في التأثير على مكانتها اليوم. فهي تحد من وجودها في المناصب القيادية، وتُكرس في بعض التشريعات التي تضعها تحت وصاية، وتدفعها لإعادة إنتاج القيم الذكورية عبر تربية بناتها لتتوافق مع توقعات المجتمع. ظاهرة “الردة النسوية”، حيث تتخلى نساء متعلمات عن العمل لتلبية أعباء المنزل، تعكس ضغوط المجتمع التي تجعل النساء يواجهن تحديات مضاعفة لإثبات ذواتهن مقارنة بالرجال.

خاتمة: نحو مساواة فكرية

إن إعادة قراءة تاريخ الفلسفة من منظور نسوي تكشف أن غياب المرأة لم يكن نتيجة نقص في قدراتها، بل نتيجة تهميش ممنهج فرضته الهيمنة الذكورية، التصورات الثقافية والدينية، والتحولات الاقتصادية مثل ظهور الملكية الخاصة. تحقيق المساواة يتطلب تغيير هذه العوامل عبر إعادة تفسير النصوص الدينية، نقد كتابة التاريخ، وإصلاح أنماط التربية. العقل لا جنس له، وإسهامات الفيلسوفات المنسيات تذكرنا بأن المرأة كانت ولا تزال شريكة أساسية في صناعة المعرفة الإنسانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!