القانون رقم 032-23: أفق جديد للعدالة الجنائية – ندوة علمية معمقة تقرأ المستجدات بين تعزيز الحقوق وتحقيق النجاعة القضائية

نظمت محكمة الاستئناف بوجدة، بالتعاون مع هيئة المحامين وكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الأول، ندوة علمية مكثفة لمناقشة المستجدات التي أتى بها القانون رقم 032-23 بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية، والذي سيدخل حيز التنفيذ في 8 ديسمبر 2025 [6، 13]. وجاء هذا اللقاء تفعيلاً لدورية السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وانخراطاً في الدينامية الثقافية للمحكمة.

شهدت الجلسة الافتتاحية حضوراً وازناً ضمّ السيد والي جهة الشرق وعامل عمالة وجدة أنجاد، والسيد رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب (النقيب الحسين زياني)، والسيد الوكيل العام للملك، والرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بوجدة، وعميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى المسؤولين القضائيين والإداريين، وممثلي المصالح الأمنية (الأمن الوطني، الدرك الملكي، المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني)، وفعاليات المجتمع المدني والإعلامي.

وقد أكد المتدخل الافتتاحي (الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بوجدة) أن القانون الجديد يمثل محطة نوعية في مسار إصلاح العدالة الجنائية، استجابة للتوجيهات الملكية السامية. مشدداً على أن القانون يكتسي أهمية بالغة في تحقيق التوازن بين وقاية المجتمع من الجريمة وحماية حقوق وحريات الأشخاص .

تلته مداخلة للسيد الوكيل العام للملك، حيث أشار إلى أن القانون الجديد يهدف إلى توفير “مسطرة جنائية منصفة وحضوريه تضمن توازن حقوق أطراف الدعوة العمومية“، وإلى “اعتبار كل شخص متابع بريء إلى أن تتم إدانته بحكم حائز لقوة شيء مقضي“. كما أبرز مستجدات هامة مثل التنصيص على “آليات جديدة ومتطوره لمحاربه ومحاصره ظاهره الجريمه ك الاختراق وطنيا وعلى المستوى الدولي“، وتعزيز التدابير الحمائية للحقوق والحريات، ومنع إيداع الأحداث الأقل من 14 سنة في الجنايات أو الأقل من 16 سنة في الجنح بالسجن .

بخصوص البرنامج العملي للتنزيل: أكد السيد الوكيل العام للملك أن التنزيل الأمثل للقانون يستوجب “استيعاب لروح المشرع وفلسفته“. وأعلن عزم النيابة العامة على إعداد برنامج لمواكبة التنزيل وضمانه، يرتكز على تفعيل دور المسؤولين القضائيين في تأطير القضاة ونواب وكيل الملك، وتنظيم ورشات للتكوين المستمر، والمواكبة عبر إصدار مذكرات توضيحية ودلائل تطبيقية، وتوحيد الممارسات، وخلق خلية جهوية للتتبع والمواكبة والتنسيق. معلنا عزم النيابة العامة على إعداد برنامج لمواكبة التنزيل، يرتكز على خمسة محاور رئيسية:

  • 1. تفعيل دور المسؤولين القضائيين في تأطير القضاة ونواب وكيل الملك ومساعدي القضاء.
  • 2. تنظيم ورشات للتكوين المستمر لفائدة القضاة وعناصر الضابطة القضائية.
  • 3. المواكبة عن طريق إصدار مذكرات توضيحية وتعميم الدلائل التطبيقية والنماذج الإجرائية.
  • 4. توحيد الممارسات وطرق العمل وتعميم التجارب الفضلى.
  • 5. خلق خلية جهوية للتتبع والمواكبة والتنسيق لتدليل الإشكاليات.

قائمة بأسماء وصفات المتدخلين الرئيسيين في الندوة:

بعد ذلك أثرى هذه الندوة مجموعة من الخبراء والمتخصصين الذين تولوا تقديم العروض والمداخلات، وهم:

1. السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بوجدة: الذي قدم الاستراتيجية العامة للنيابة العامة لتنزيل القانون ومناقشة فلسفة الإصلاح .

2. الأستاذ محمد جدي: المستشار بمحكمة الاستئناف بوجدة وقاضي مكلف بالتحقيق، وتحدث عن مستجدات قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بالضابطة القضائية.

3. الدكتور بوبكري : أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الإجتماعية بجامعة محمد الأول بوجدة، وتناول محور الدعوى العمومية وقراءة في مستجداتها .

4. الأستاذ فتح الله تيزاوي: مستشار بمحكمة الاستئناف بوجدة ومكلف بالتحقيق، وقدم مداخلة حول قضاء التحقيق في ضوء المستجدات .

5. الأستاذ الطاهري: الذي تناول مرحلة قضاء الحكم والمستجدات الإجرائية.

6. الأستاذ الداهري: الذي ركز على الحق في الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة.

7. الدكتور فخر الدين الجزائري: الذي قدم قراءة في مستجدات التعاون القضائي الدولي والمحاكمة عن بعد .

8. الأستاذة هدايت: التي قدمت مداخلة حول قضاء الأحداث من منظور القانون الجديد.

أولاً: فلسفة الإصلاح وتكريس ضمانات المحاكمة العادلة

يرتكز القانون الجديد على مرجعيات دستورية ولتوصيات صدرت عن هيئة الإنصاف والمصالحة والمناظرة الوطنية حول السياسة الجنائية (2004) والميثاق الوطني حول إصلاح منظومة العدالة. وقد لخص السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بوجدة الفلسفة الجديدة للقانون، مؤكداً أنه جاء لتجاوز العديد من الإشكاليات والخلافات المفاهيمية والإجرائية، ولتكريس ثوابت أساسية لمقومات العدالة الجنائية الناجحة.

ثانياً: تطوير الإجراءات في مرحلة البحث والتحري (الضابطة القضائية)

تناولت المداخلات التعديلات التي همت صلاحيات الضباط وحقوق المشتبه فيهم في هذه المرحلة.

1. الصلاحيات الإدارية والرقابة القضائية:

    ◦ تم إحلال رئيس النيابة العامة محل وزير العدل في جميع المقررات التي تخص الضابطة القضائية.

    ◦ أصبحت أعمال الضابطة القضائية تخضع لتعليمات وسلطة النيابة العامة وقضاة التحقيق.

    ◦ نص القانون على ضرورة توحيد الممارسات بين ضباط الشرطة القضائية ونقابة المحامين لضمان ديمومة تلبية حق المشتبه فيه في الاتصال بالمحامي.

2. ضمانات الحراسة النظرية وتوثيق الإجراءات:

    ◦ تعزيز حق الدفاع بالاتصال بالمحامي منذ الساعة الأولى للإيقاف لمدة 30 دقيقة وبشكل سري.

    ◦ قُيد تمديد الحراسة النظرية بضرورة صدور أمر كتابي معلل عن النيابة العامة، وهو ما يطرح إشكالية للمناطق البعيدة عن محاكم الاستئناف.

    ◦ أقر القانون التسجيل السمعي البصري في الجنايات والجنح التي عقوبتها خمس سنوات فأكثر، ولكنه قُصر على لحظة تلاوة التصريحات أو التوقيع/الإبصام على المحضر.

    ◦ أصبح رفض النيابة العامة لإجراء فحص طبي (بطلب من المشتبه فيه أو دفاعه) لتحديد تعرضه للتعذيب أو الإكراه، يؤدي إلى عدم الاعتداد بالاعتراف المضمن في المحضر.

ثالثاً: آليات تحريك الدعوى العمومية وتقييدها

عرفت الدعوى العمومية مستجدات في نطاق المتابعة، وكيفية تحريكها.

1. توسيع نطاق المتابعة والطعن في الحفظ:

    ◦ تم التنصيص صراحة على ممارسة الدعوى العمومية ضد الشخص الاعتباري، لتجنب سلبيات القانون الجنائي الحالي.

    ◦ أصبح من حق المشتكي التظلم من قرارات الحفظ المتخذة من طرف وكيل الملك أمام الوكيل العام للملك، أو أمام الوكيل العام لمحكمة النقض إذا كان القرار صادراً عن الوكيل العام.

    ◦ تم توسيع نطاق الصلح الجنائي وجعله بديلاً للدعوى العمومية، مع دور إيجابي لوكيل الملك في تفعيله.

2. تقييد المتابعات في قضايا المال العام والتجنيح القضائي:

    ◦ قيدت المادة الثالثة حق النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية في قضايا الجرائم المرتبطة بالمال العام، إذ تستلزم الإحالة من هيئات الحكامة أو التفتيش. وقد أثار هذا التقييد تساؤلات حول إمكانية ارتفاع “الرقم الأسود” لهذه الجرائم وتأثيره على آجال التقادم.

    ◦ التجنيح القضائي: مُنح الوكيل العام للملك سلطة إحالة جناية لتكييفها ومتابعتها كجنحة، إذا كان الضرر الناجم عنها محدوداً. وتتقيد المحكمة التي تحال عليها القضية بهذا الوصف إذا تحقق لديها توفر الشرطين المتعلقين بحجم الضرر وقيمة الحق المعتدى عليه.

رابعاً: إصلاح قضاء التحقيق وضمانات الحكم

شملت التعديلات مرحلتي التحقيق والمحاكمة، مع التركيز على ترشيد التدابير المقيدة للحرية.

1. ترشيد الاعتقال الاحتياطي والضمانات التحقيقية:

    ◦ أصبح التحقيق اختيارياً في الجنايات وإلزامياً بنص خاص في الجنح.

    ◦ أصبح قاضي التحقيق ملزماً بإجراء بحث مالي موازٍ في الجرائم التي تدر عائدات مالية، وله سلطة حجز وتجميد الممتلكات.

    ◦ تم ترشيد الاعتقال الاحتياطي واعتباره تدبيراً استثنائياً، مع تقليص آجال تجديده.

    ◦ استحداث إجراء المراقبة الإلكترونية كتدبير بديل للاعتقال الاحتياطي.

    ◦ منح الدفاع الحق في تقديم ملاحظات أو وثائق إلى قاضي التحقيق.

2. تعزيز حقوق الدفاع أمام قضاء الحكم:

    ◦ تم استحداث حق الطعن الفوري أمام هيئة المحكمة في الأمر بالإيداع في السجن الصادر عن النيابة العامة، مع إلزام المحكمة بالبت فيه في اليوم الموالي للإحالة.

    ◦ أصبح يتعين على المحكمة عدم بناء قناعتها بالإدانة على تصريحات متهم ضد متهم آخر إلا إذا كانت معززة بقرائن قوية منسجمة.

    ◦ نص القانون صراحة على أن تخلف المتهم عن الحضور لا يحول دون حق دفاعه في تقديم المرافعة والاستماع إليه من طرف المحكمة.

    ◦ أصبحت المحكمة تتوفر على إمكانية النطق بالأحكام في مادة الجنايات داخل أجل 15 يوماً من اختتام المداولة.

خامساً: العدالة الجنائية المتخصصة (الأحداث والتعاون الدولي والرقمنة)

ركز القانون على مواكبة التطورات التكنولوجية ومعالجة القضايا ذات الطبيعة الخاصة، كالتعاون الدولي وقضاء الأحداث.

1. حماية الأحداث ومكافحة الجريمة المنظمة:

    ◦ تم تحديد سن الرشد الجنائي بـ 18 سنة ميلادية كاملة.

    ◦ قُيد الإيداع في السجن للحدث، حيث لا يجوز اتخاذ هذا التدبير في حق الحدث الذي يقل عمره عن 14 سنة في الجنايات وعن 16 سنة في الجنح.

    ◦ شدد القانون على سرية الأبحاث والجلسات، ومنع نشر أية بيانات أو صور تتعلق بالأحداث (جانحين أو ضحايا).

    ◦ إلزام المحكمة بتعيين محامٍ للحدث الضحية الذي يرغب في تقديم مطالبه المدنية في إطار المساعدة القضائية.

    ◦ على مستوى التعاون الدولي، تم ترسيخ مبدأ السيادة الجنائية الممتدة لمتابعة الجرائم المرتكبة ضد مواطن مغربي بالخارج. وأُقرت مقتضيات جريئة تنظم عمليات الاختراق المشتركة مع ضوابط صارمة لضمان السيادة الوطنية.

2. تقنين المحاكمة عن بعد كخيار تشريعي:

    ◦ انتقل المشرع من الاستعمال الاستثنائي للمحاكمة عن بعد إلى تقنين شامل ضمن قانون المسطرة الجنائية.

    ◦ اشترط القانون الموافقة الصريحة للمتهم لإجراء المحاكمة عن بعد، وتوثيقها بمحضر رسمي بحضور دفاعه.

    ◦ وجوب استعمال وسائل تقنية مؤمنة تضمن جودة الصوت والصورة وسرية الجلسة، لضمان استمرار مبدأ الحضورية افتراضياً.

سادساً: رهانات التنزيل والتكامل المؤسساتي

خلصت المداخلات إلى أن المحك الحقيقي لتقييم الإصلاح يكمن في التنزيل العملي للنصوص.

أكد عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التزام الجامعة بالمساهمة في إنتاج المعرفة القانونية الرصينة، واقترح إرساء شراكة ثلاثية تجمع رئاسة النيابة العامة ومحكمة الاستئناف والجامعة. وتهدف هذه الشراكة إلى تنظيم ندوات متخصصة ودورات تكوينية مشتركة لتعزيز التكامل بين الجانب النظري والممارسة الميدانية.

شدد الحاضرون على أن النجاح في مسار الإصلاح يتطلب تفاعلاً جاداً ومستمراً من جميع الفاعلين (القضاة، الدفاع، الضابطة القضائية)، لضمان توطيد دولة الحق والقانون وتحقيق العدالة المنصفة. وقد نوه السيد الوكيل العام بضرورة استمرار الحماس الذي رافق دخول القانون حيز التنفيذ على مستوى أرض الواقع، لكي لا تتراجع المطالب الحقوقية مع مرور الوقت.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!