الحرب الإيرانية-الإسرائيلية: معادلة الرابح والخاسر في الشرق الأوسط الجديد

د. عادل راشدي – وجدة، 24 يونيو 2025
في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تعصف بالشرق الأوسط، تشكل الحرب الإيرانية-الإسرائيلية نقطة مفصلية في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية. هذا الصراع، الذي تجاوز بأبعاده حدود الاشتباك العسكري، يعكس صراعًا أعمق على النفوذ والسيطرة، حيث تتصارع قوى إقليمية ودولية لفرض رؤيتها في معادلة المنطقة الجديدة. من إيران إلى إسرائيل، ومن الولايات المتحدة إلى روسيا، يبرز كل طرف كرابح أو خاسر بدرجات متفاوتة، بينما تبقى القضية الفلسطينية الخاسر الأكبر في هذا الصراع المعقد.
إيران: تأكيد القوة وكسر العزلة
خرجت إيران من هذا الصراع كلاعب إقليمي لا يُستهان به، حيث نجحت في إرسال رسالة قوية مفادها أنها قوة عسكرية واقتصادية لا يمكن تجاهلها. الحرب عززت من مكانتها كركيزة أساسية في الشرق الأوسط، حيث أثبتت قدراتها الصاروخية وصولاً إلى العمق الإسرائيلي، مما كسر أسطورة “الحصانة” الإسرائيلية. على الصعيد الداخلي، ساهمت الحرب في تقوية الجبهة الإيرانية، حيث وحدت الشعب حول قيادته في مواجهة التحديات الخارجية. اقتصاديًا، من المتوقع أن تُسهم هذه التطورات في تخفيف الحصار الاقتصادي المفروض على طهران، خاصة مع تعزيز موقعها ضمن مجموعة “بريكس” وتوسيع نفوذها في جنوب آسيا. إيران، بهذا المعنى، لم تكتفِ بتثبيت أقدامها كقوة إقليمية، بل نجحت في تحويل الصراع إلى فرصة لكسر عزلتها الدولية.
إسرائيل: الحفاظ على الواجهة بتكلفة باهظة
على الجانب الآخر، حافظت إسرائيل على صورتها كقوة إقليمية، لكن ذلك جاء بمساندة أمريكية حاسمة. هذه المساندة، التي تجلت في اعتراض الصواريخ الإيرانية، سمحت لإسرائيل بالخروج من الصراع دون خسائر كارثية، لكنها كشفت عن هشاشة دفاعاتها المستقلة. إسرائيل ربحت ثلاثة مكاسب استراتيجية:
- أولاً، ضمان تمويل إعادة الإعمار وتقوية بنيتها الاقتصادية من قبل دول الخليج، مما يُخفف العبء المالي عنها.
- ثانيًا، تسارع وتيرة تعميم اتفاقيات إبراهيم لتشمل دولاً عربية مترددة، مما يعزز عزلتها الدبلوماسية عن العالم العربي.
- ثالثًا، وهو الأكثر خطورة، نجاحها في إقبار القضية الفلسطينية من أجندات الأنظمة العربية، حيث أصبحت القضية أقل إلحاحًا في ظل الأولويات الإقليمية الجديدة.
لكن هذه المكاسب تأتي بثمن: تعميق الاعتماد على الدعم الخارجي وتعريض إسرائيل لضغوط داخلية وخارجية متزايدة.
الولايات المتحدة: إنقاذ الحليف ومواجهة المنافس
لعبت الولايات المتحدة دور “المنقذ” لحليفتها إسرائيل، حيث نجحت في الحد من تأثير الهجوم الإيراني على العمق الإسرائيلي. هذا التدخل عزز من هيمنتها كقوة راعية في المنطقة، لكنه كشف في الوقت ذاته عن حدود نفوذها في مواجهة إيران. الولايات المتحدة سعت إلى استبعاد الصين، التي كانت قد عززت حضورها من خلال الوساطة بين السعودية وإيران، من المعادلة الإقليمية، ولو بشكل مؤقت. كما عملت على تأخير المشروع الصيني “طريق الحرير” عبر مضيق هرمز، والتضييق على منافذ الطاقة التي تعتمد عليها الصين. ومع ذلك، أدركت الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية أن استمرار الحرب الإيرانية-الإسرائيلية قد يكون بداية النهاية لهيمنتها في مواجهة التنافس الصيني المتزايد. هذا الصراع، إذن، هو سلاح ذو حدين: يعزز النفوذ الأمريكي قصير المدى، لكنه يُنذر بتحديات طويلة الأمد.
روسيا: اللعب خلف الستار
لم تظهر روسيا كلاعب رئيسي في الواجهة، لكنها لعبت دورًا حاسمًا خلف الكواليس. موافقتها على مفاوضات إيرانية-إسرائيلية، كما تُشير زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى موسكو قبل 24 ساعة من بدء التفاوض، تُبرز دورها كوسيط غير معلن. في المقابل، يبدو أن روسيا نجحت في استمالة تنازلات أمريكية، خاصة فيما يتعلق بالانسحاب التدريجي من الملف الأوكراني. هذا الدور الخفي يعكس استراتيجية روسيا في تعزيز نفوذها دون الانخراط المباشر في الصراع، مما يمنحها مرونة دبلوماسية وعسكرية في المنطقة.
القضية الفلسطينية: الخاسر الأكبر
وسط هذه الصراعات، تبرز القضية الفلسطينية كالخاسر الأكبر. الدول التي طالما رُوّجت كداعمة للإسلام السياسي، مثل قطر وتركيا، بدت وكأنها تتفاوض على حساب القضية الفلسطينية، مُقدمة تنازلات لتعزيز موقعها في المعادلة الإقليمية الجديدة. الأسئلة المقلقة تتزايد: من ساهم في قلب نظام بشار الأسد؟ من قدم معلومات دقيقة عن قادة حماس وحزب الله؟ وأين يقع مركز العمليات الاستخباراتية الأمريكية في المنطقة؟ هذه الأسئلة، التي ستُجيب عنها كتب التاريخ لاحقًا، تُشير إلى أن القضية الفلسطينية قد أُقصيت تدريجيًا من الأولويات الإقليمية، تاركة الفلسطينيين في مواجهة مصيرهم بمفردهم.
خاتمة: معادلة الشرق الأوسط الجديدة
الحرب الإيرانية-الإسرائيلية ليست مجرد صراع عسكري، بل هي إعادة صياغة لمعادلة الشرق الأوسط. إيران عززت مكانتها كقوة إقليمية، بينما حافظت إسرائيل على صورتها بدعم أمريكي وخليجي. الولايات المتحدة، رغم نجاحها في حماية حليفتها، تواجه تحديات متزايدة من الصين، بينما لعبت روسيا دورًا خفيًا لكن حاسمًا. لكن الخسارة الحقيقية تظل من نصيب القضية الفلسطينية، التي أُبعدت عن دائرة الضوء في ظل التقاطعات الجيوسياسية. في هذا السياق، يبقى السؤال: هل ستتمكن المنطقة من استعادة توازنها، أم أن هذا الصراع سيُمهد لمزيد من الاستقطاب والخسائر؟ التاريخ وحده سيُجيب.