التخصص المحاسباتي و الخلط بين الاقتصاد وتسيير المؤسسات والشركات

ايمان يعقوبي

كما في الطب مثلا والكيمياء والبيولوجيا تخصصات متعددة، الاقتصاد كذلك لا يحيد عن القاعدة. البعض يعتقد أن الاقتصاد وحدة واحدة. لكن مجالاته متنوعة ومتشعبة. وهو علم يخضع لنظريات عديدة ومتعددة، وتضارب آراء كبير، منذ أن وضع أول توجه لتقعيده. لكن الخطأ الذي يقع فيه البعض هو الخلط بين الاقتصاد وتسيير المؤسسات والشركات. والواقع أن هذه الأمور تختلف كثيرا. فأن تكون حاصلا على شهادة في تسيير المؤسسات، لا يعني بالضرورة كونك مؤهلا للحديث في المالية العمومية. حتى تدبير المؤسسات فيه ضوابط وتخصصات كثيرة. فالمدير العام ليس هو مسؤول التواصل وليس هو المحاسب ولا مسؤول الموارد البشرية. حتى المحاسبة نفسها فيها أنواع متعددة. إحداها وهي المحاسبة الوطنية، la comptabilité nationale، تخضع لقواعد خاصة وهي تخصص فريد يحتاج سنوات طوال حتى يخرج لك شخصا واحدا مؤهلا فيه.

وفي تواصلنا في لجنة المالية مع المندوب السامي للتخطيط في المملكة في إطار عرض ميزانية المندوبية خلال أشغال قانون المالية بمجلس النواب، أكد على أن المغرب يحتاج متخصصين كثرا في مجال المحاسبة الوطنية وأن هناك نقصا في عددهم وأن تكوينهم يحتاج لوقت طويل. هو يقول هذا بالرغم من أن المغرب يتوفر على عدد كبير من المحاسبين المتمرسين وذوي الخبرات العالية. لكن الأمر يتعلق بتخصصات مختلفة تختلف من حيث تفاصيلها الدقيقة، وطريقة حساب المعطيات الخاصة بها.

الشاهد هنا أن البعض لمجرد أنه يتقن تدبير المقاولات، أو لكونه حاصلا على شهادة كبرى فيها يعتقد أنه يمكن أن يقدم مواقف مرتبطة باقتصاد دولة. بل الأخطر هو أنه يحلل المعطيات الاقتصادية للدولة بمنطق رابح رابح، وبمنطق حسابي وعددي. فإذا كانت قرارات المؤسسة الخاصة التي هدفها الربح فقط يمكن أن تتخذ من خلال عمليات حسابية لمؤشرات معينة، فإنه يظن أنه يمكن أن يمارس نفس المنطق في الدولة. والحاصل أن هذا خطأ كبير ليس فقط لمجرد أن الدولة تختلف عن المؤسسة الخاصة، لكن لأن الدولة هدفها ليس الربح بل خدمة مصالح المواطنين.

الأزمة العالمية لسنة 1929 أظهرت لنا أن إخضاع الاقتصاد لعمليات حسابية يمكن أن يغرق العالم في شر سيحتاج الخروج منه سنوات عديدة. بل وسيحتاج نظريات اقتصادية جديدة. وبالحديث عن النظريات فإن خصوصية الاقتصاد هو أن العمليات الحسابية هي التي تأتي خدمة للنظرية لا العكس. فأفضل الاقتصاديين كانوا فلاسفة أو مفكرين وحاولوا إخراج نظريات، ثم التقعيد لها بواسطة الرياضيات والحساب. في الوقت الذي تعتمد فيه عدد من العلوم الأخرى على قاعدة عكسية تجعل الأصل هو البحث التقني والحسابي لإخراج القاعدة. الغرض من ذكر هذه الأمور هو أن اقتصاد الدولة بخلاف اقتصاد المؤسسات يخضع لضوابط نظرية يتداخل فيها التقني بالسياسي، ولا يكون الهدف منها الربح. لأنه لو كان الهدف هو حساب ما ستجنيه الدولة فقط فهذا سيجرنا إلى أن نلغي كل النظريات التي جعلت موقع المساواة بين المرأة والرجل، والقضاء على التفاوتات المجالية ودعم القطاعات الاجتماعية والحفاظ على البيئة أمرا مهما في الاقتصاد. وسنعتبر أن أهداف التنمية لا تجر على الدولة مصلحة وسنلغي مؤشر التنمية البشرية. وبالتالي ستلغي الدول برامج الدعم الاجتماعي، وستتخذ قرارات تضر بالبيئة وتجر وبالا أعلى الأجيال القادمة …

الخلاصة أن عددا من الذين يعتقدون أنهم لمجرد نجاحهم في تدبير مؤسسة، أو لمجرد حصولهم على شهادة من معهد أو جامعة مرموقة، يمكن أن يعطوا الدروس لغيرهم في اقتصاد البلد، وينتقدوا اقتصاد الدولة اعتمادا على قواعد تسيير الشركات. بل وينشروا مغالطاتهم الخطيرة للناس، خصوصا حين يتم اقتراح الحماقات على الدولة والتي حين لا تستجيب لها، تنعث بعبارات التحقير والتحامل على الشعب.

قواعد تدبير الدولة اقتصاديا خضعت هي نفسها لتطور كبير وتراكمات أسست لقواعد من غير المعقول الخروج عنها. واقتراحات الفاعل السياسي يجب أن تحترم الشكل والمضمون المفروض أن يحترم. أن يجب اقتراح مقترح منطقي على مستوى مضمونه ونتائجه، ولكن أيضا على مستوى آليات وضعه وتطبيقه والعمل به ولا يمكن أن يتم اقتراح “حل” يعتبره صاحبه حلا وهو لا يحترم آليات عمل المالية العمومية والقواعد التي تنطلق منها والتي يبنى عليها القرار فيها.

في النهاية لا يمكن أن ننفي أن عددا ممن نجحوا فعلا في تدبير الشركات كانوا ناجحين جدا كاقتصاديين أو كوزراء اقتصاد أو كمنظرين في المجال. لكن الذين ينجحون في تخصص ليس تخصصهم الأصلي هم أشخاص استثنائيون يكونون قد بذلوا جهدا استثنائيا على أنفسهم، سواء من خلال تعدد التخصصات العلمية أو كثرة القراءات، أو تعدد المسؤوليات التي مروا منها ومكنتهم من التعرف على مجالات مختلفة في تخصصهم …
العبرة أن الأفكار التي تصدر عن عدد من الأفراد يجب فعلا أن تخضع للتحليل والتدقيق لأنها أحيانا تكون غريبة وعجيبة وغير منطقية ولكن صاحبها يكون سعيدا بها وواثقا في نجاعتها وذلك لأنه يعتقد أن ما تلقاه من عارف كاف لكي ينظر في مجالات لا يتقنها، ولا يتواضع حتى لكي يتعلم شيئا يذكر فيها لأن تكبره يجعله أسيرا لجهله …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى