الأسرة المغربية في زمن التحول الرقمي: دعوة لإنشاء مرصد وطني لمحاربة الأمية الرقمية

في إطار الندوة الفكرية التي نظمتها حركة الإصلاح والتوحيد بالمغرب تحت شعار “الأسرة والتربية في ظل الثورة الرقمية: قراءة في الفرص والتأثيرات النفسية والاجتماعية”، ألقى الأستاذ سعيد بنيس محاضرة بعنوان “في الحاجة إلى مرصد وطني للبيئة الافتراضية لمحاربة الأمية الرقمية”. تناولت المحاضرة تأثيرات التحول الرقمي على الأسرة المغربية، مستعرضةً الفرص والتحديات الاجتماعية والنفسية، مع اقتراح إنشاء مرصد وطني لمواجهة الأمية الرقمية وحماية الأجيال الناشئة.

الثورة الرقمية وتحول الأسرة المغربية

أشار الأستاذ بنيس إلى أن التحول الرقمي أحدث تغييرات جذرية في بنية الأسرة المغربية، منتقلةً من التواصل الواقعي إلى الاتصال الرقمي. وفقًا لإحصائيات الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات (ANRT)، يستخدم 99% من المغاربة الهواتف الذكية، ويمتلك 86% من الأفراد فوق سن الخامسة هاتفًا ذكيًا (حوالي 20 مليون شخص)، بينما تستخدم 90% من الأسر الهاتف الثابت كوسيلة للوصول إلى الإنترنت. هذه الأرقام تعكس اعتمادًا واسعًا على التكنولوجيا، حيث أصبحت التفاعلات الأسرية تعتمد على تطبيقات مثل واتساب وزووم، مما أدى إلى ظهور “أسرة متصلة” بدلاً من “أسرة تواصلية”.

هذا التحول أفرز مفهوم “المواطنة الافتراضية” (e-citizenship)، حيث يتشكل الانتماء الاجتماعي عبر الفضاء الرقمي، مما يطرح تحديات جديدة. فقد أصبح الرابط الأسري رهين التفاعلات الرقمية، مع ظهور سلوكيات مثل “الحظر” أو “إلغاء المتابعة” بين أفراد الأسرة، مما يؤثر على تماسكها. كما لاحظ بنيس تحولًا في العادات اليومية، مثل استبدال الطهي التقليدي بطلب الطعام عبر تطبيقات التوصيل، وهو ما يعكس انتقال الأسرة من الجمعية إلى الفردانية.

الفرص: تضامن رقمي وإعادة تسييس الشباب

رغم التحديات، أبرز الأستاذ بنيس جوانب إيجابية للتحول الرقمي. يُعد الفضاء الافتراضي محضنًا جديدًا للتنشئة الاجتماعية، حيث يعزز التضامن من خلال مبادرات مثل “كلنا كريمة” أو “كلنا وائل”، التي تحفز الشباب على دعم قضايا وطنية. كما يتيح إعادة إحياء “اللمة الأسرية” افتراضيًا، خاصة للأفراد المغتربين. ومن الجوانب الإيجابية أيضًا إعادة تسييس الشباب، حيث يتابعون الشأن العام عبر المنصات الرقمية، وينخرطون في مبادرات مدنية مثل تنظيف الشوارع خلال جائحة كورونا.

التحديات: الأمية الرقمية والانحراف الافتراضي

أكد بنيس على التحديات الكبيرة التي يفرضها التحول الرقمي، وفي مقدمتها الأمية الرقمية. أظهرت دراسة ANRT أن 70% من أولياء الأمور غير قادرين على متابعة أبنائهم في الفضاء الرقمي، و21% يجهلون مخاطره، مما يعزز الاستقلالية المفرطة للأطفال الذين يعتمدون على أدوات مثل جوجل أو ChatGPT كمصادر معرفة بديلة. هذا النقص في الوعي يضعف دور الآباء، حيث أصبحوا، كما وصف بنيس، “خضرة فوق طعام”.

من التحديات البارزة أيضًا “الانحراف الافتراضي”، الذي يشمل التنمر، التحرش، الابتزاز، وثقافة الكراهية. وصفت المحاضرة الفضاء الرقمي بأنه “موبوء”، مع مخاطر المنصات مثل تيك توك، التي ربطتها دراسات فرنسية بحالات إيذاء النفس والانتحار. كما ظهرت “أمراض رقمية” مثل الإدمان على الأجهزة، وثقافة السيلفي التي تهدد الخصوصية، إلى جانب “الغرائبية الهوياتية والمواطناتية”، التي قد تؤدي إلى اغتراب الشباب عن هويتهم ووطنهم. أظهرت دراسة لمعهد الدراسات الاستراتيجية أن 33% من الأسر تأثرت سلبًا خلال الجائحة، مما يعكس توتر العلاقات الأسرية.

الحلول المقترحة: نحو مرصد وطني

لاقتراح حلول لهذه التحديات، دعا الأستاذ بنيس إلى إنشاء مرصد وطني للبيئة الافتراضية، يضم مختصين وحكوميين لمراقبة التحولات الرقمية وتقديم توصيات. ومن الحلول الأخرى:

  1. محو الأمية الرقمية: تثقيف الآباء حول استخدام الإنترنت ومخاطره لتمكينهم من توجيه أبنائهم.
  2. التربية على الميديا: إدخال برامج تعليمية في المدارس لتعليم الطلاب التعامل الآمن مع الفضاء الرقمي، عبر ورش عمل تهدف إلى تصحيح القيم.
  3. استعادة دور المؤسسات: تفعيل دور الأسرة، المدرسة، الجامعة، والجمعيات في التنشئة الاجتماعية لمواجهة التنشئة “المتوحشة” غير المؤطرة.
  4. سياسات عمومية: اعتبار الانحراف الافتراضي قضية تتطلب قوانين جديدة لمعالجة التحرش والابتزاز الرقمي.

خاتمة: بناء جيل واعٍ رقميًا

يُبرز الأستاذ سعيد بنيس في محاضرته أن التحول الرقمي يشكل تحديًا سوسيولوجيًا يتطلب استجابة جماعية. إن إنشاء مرصد وطني للبيئة الافتراضية، إلى جانب تثقيف الآباء وتفعيل دور المؤسسات التربوية، يمثل خطوات حاسمة لمواجهة الأمية الرقمية والانحراف الافتراضي. الهدف هو بناء جيل واعٍ رقميًا، متجذر هوياتيًا، قادر على الاستفادة من الفرص التي تقدمها التكنولوجيا دون التضحية بالقيم الأسرية والاجتماعية الأصيلة.

المصادر:

  • محاضرة الأستاذ سعيد بنيس، ندوة حركة الإصلاح والتوحيد، 2025.
  • دراسات الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات (ANRT).
  • معهد الدراسات الاستراتيجية، تقرير حول تأثير الجائحة على الروابط الأسرية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!