مستقبل الأمة بين الحكام والشعوب

ذ ، محمد يتيم

ما يطرحه الدكتور أحمد الريسوني وهو يتحدث عن كون الأمة هي الأصل أمر كبير وعميق له امتداد في عدد من كتبه ودراساته ومنها كتابه ” الأمة هي الأصل “.

وهو يؤسس لما سميته في مقالات متعددة بالانتقال من ” باراديغم ” إقامة الدولة إلى إقامة الدين ” وهو التصور الذي قاد حركة التوحيد والإصلاح إلى تدقيقه في ميثاقها بالتأكيد على ” الإسهام في إقامة الدين ” بدل إقامة الدولة الإسلامية “.
تنطلق هذه الرؤية من أن الدولة ما هي إلا شكل لتنظيم المجتمع .. والحديث عن إسلامية الدولة إنما هو بالأساس توصيف تاريخي حضاري وليس توصيفا ينطبق بالأساس على ” ماهية الدولة ” أو أنه ينطبق فقط على التجربة الأولى للمسلمين التي تسمى ب” الخلافة الراشدة “.. التي لم تكن إلا شكلا من أشكال تدبير المسلمين الأوائل أي الصحابة ل “اجتماعهم السياسي “.
والدليل على ذلك أنه لم يكن لدى الصحابة رضي الله عنهم تصور موحد حول تدبير انتقال السلطة ولا لتنظيم الدولة ..وأن طريقة ذلك الانتقال تم بطرق مختلفة من هذا الخليفة إلى ذاك ..
وهو أمر لا ينقص من قدر الصحابة وخيريتهم ولكن نشير هنا إلى ما انتهى إليه علماء المسلمين من اعتبار تدبير وتداول السلطة من السياسية الشرعية القائمة على فقه الموازنة بين المصالح والمصالح والمفاسد والمصالح والمفاسد والمفاسد بلغة ابن عقيل وابن القيم وابن تيمية …
لقد ظلت القضية السياسية قضية اجتهادية و مندرجة فيما يعرف عند الفقهاء بالمصالح المرسلة .. أو في إطار قوله صلى الله عليه وسلم : أنتم أعلم بأمور دنياكم “.
نعم تعتبر مرحلة الخلافة الراشدة مرحلة مرجعية من حيث كونها تجسبدا لدرجة من السمو القيمي لكن المسلمين في تلك المرحلة لم يصلوا إلى بلورة نمط دستوري وقانوني للتداول على السلطة وانتقالها بسلاسة … بل ظلت الثقافة السياسية انذاك متأثرة بالثقافة الاجتماعية أو ما أسميه ب” ثقافة الشوكة والغلبة “.
ثم بعد ذلك بدأ المسلمون يبلورون فقها سياسيا محكوما بهاجس حقن دماء المسلمين و الذي بلغ ذروته في ما سمي ب” عام الجماعة ” التي جاءت الإشارة إليه في النبوءة النبوية حين قال صلى الله عليه وسلم في حق سيدنا الحسن:” إن هذا ابني سيد وابن سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ” .
وقد تحققت تلك النبوءة بتنازله عن الخلافة لسيدنا معاوية لتبدأ مرحلة جديدة سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الحضارية والثقافية ..
من الناحية السياسية بالانتقال  من الخلافة إلى الملك .. مع ضمان حد مقبول من الاستقرار  مكن الأمة من التوجه للقيام  برسالتها الدعوية والحضارية على الرغم  من أن التحول نحو الملك قد تم اعتمادا على  شرعيات أخرى ليست هي الشرعية التي  قامت عليه الخلافة كما ورد  في الأثر ما أؤتمر فيه والملك  ما غلب عليه بالسيف ” .
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن معنى الخلافة أي الرشد في التدبير السياسي ليس له شكل محدد بل يمكن أن يتخذ أشكالا دستورية متعددة فقد يكون نظاما ملكيا دستوريا أو نظاما رئاسيا أو جمهوريا …وغير تلك من الأشكال الدستورية التي تبقى خاضعة للاجتهاد البشري.

الاستقرار السياسي للأمة والانطلاق للبناء الحضاري

بناء على التجربة الأولى للمسلمين برزت وتصخمت قضية الاستقرار السياسي إلى الحد الذي انتج اجتهادات فقهية ذهبت إلى حد.تسويغ :فقه التغلب” .
نعم يمكن انتقاد هذا الفقه من منطلق القيم التأسيسية التي جاء بها الإسلام قيم الشورى والعدالة والمساواة … لكن يتعين الانتباه من جهة أخرى إلى أن هذا الاستقرار النسبي قد مكن من تفرغها لمهام البناء العلمي والثقافي والحضاري ولو في ظل دول ناقصة الشرعية بمقياس شرعية دولة الخلافة ..
لقد مكن تنسيب مسألة السلطة السياسية أو مسألة الحكم من استقرار مكَّن الأمة من التفرغ لنشر دعوة الإسلام ونموذجه الثقافي والحضاري على الرغم من أن الدول الإسلامية المتعاقية لم تكن في مستوى النموذج المعياري أي الخلافة الراشدة .. وهو رشد بالمعنى الأخلاقي وليس بالمعنى الدستوري ومعيار تدبير الخلاف السياسي مما جعل مصطلح ” الفتنة ” هو التوصيف الذي ينطبق على الخلاف بين المسلمين الأوائل وجعل علماء الأمة يتوقفون في إصدار أحكام في الخلاف الذي وقع بين الصحابة الأوائل معتمدين مقولة عمر بن عبد العزيز :”دماء طهر الله منها يدي فلا أحب أن أخضب بها لساني،” وقال آخر: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. وفي غيرهما: تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا. ”
الأمة هي الأصل
والخلاصة هي ما ذهب إليه الدكتور الريسوني في كتابه :” الأمة هي الأصل ” وأنه ليس من الصواب جعل الدولة هي الأصل ويجعلونها هي الأولوية .. في حين أن الدولة باعتبارها إطارا دستوريا وسياسيا لا تنفصل عن واقع الأمة ..بل هي إفراز لهذا الواقع .. وأنها تتويج لأقامة الدين عروة عروة .. وأن عروة الحكم أو السلطة السياسية ليس سوى اتعكاسا للوضع العام للأمة وأنه ” كما تكونوا يول عليكم ”
وكما يقول الدكتور الريسوني فإن الدولة ووجوب الخلافة هي من باب الوسائل ولا هي من الواجب بذاته وأن السعي لإقامة الواحب لغيره لا ينبغي أن يكون على حساب الواجب لذاته ..
والواقع أن ما تقوم به المقاومة وفصائلها في التصدي للعدوان أبلغ وأقوى مما تقوم في نصرة القضية دول إسلامية ومؤتمر للدول الإسلامية ..
وما تقوم به الشعوب الإسلامية من دعم معنوي للمقاومة أكبر من دعم ل ” دول إسلامية ” مقيدة بحسابات وموازنات وبعضها مقيد بتواطآت معلنة وأخرى خفية ..
وأنه لو انتظرت المقاومة الفلسطينية ” إقامة الدولة “لضاعت القضية .. دون أن يلغي ذلك أهمية وجود دولة ملتزمة بنصرة قضية الحرية والعدالة ومقاومة العدوان .. ولو في الحد الأدنى المبسور والمتيسر…
وتشير عدة تجارب دولية في عدد من الحالات أنه لم يبق للشعوب خيار إلا المقاومة حين عجزت الدولة بل حين تواطأت حكوماتها مع العدوان الأجنبي كما هو الشأن بالنسبة لحركة المقاومة في فرنسا la résistance حين تواطأت حكومة فيشي مع الاحتلال النازي …
وللأسف الشديد. فإن فرنسا الرسمية تعتبر عمل المقاومة الفلسطينية اليوم عملا ارهابيا … وهو توجه أصبح شاذا مع تصاعد الوعي العالمي بالمظلمة الواقعة على الشعب الفلسطيني واستمرار التحيز الأمريكي الرسمي لفائدة العدوان الصهيوني .بسبب قوة اللوبي العربي الإسلامي… في انتظار أن يتشكل لوبي عربي إسلامي تكون له من الفعالية والتأثير ما للوبي الصهيوني ..

نشرنا المقال بعدموافقة صاحبه

كما نذكر انه منشور على

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى