
في زمن تتجفف فيه بحيرة طبريا، يبدو أن العالم العربي يعيش جفافاً من نوع آخر: جفاف حرية التعبير. وسط هذا المناخ القاحل، يبرز الفنان الساخر المغربي أحمد السنوسي، الشهير بـ »بزيز »، كرمح لاذع يخترق دروع الطغاة. لكن، هل السخرية السياسية سلاح بلا حدود، أم أنها تظل رهينة أقفاص الرقابة؟ دعونا نغوص في هذه المعركة الممتعة بين الفن والسلطة.
بزيز: الفارس الممنوع من الساحة
أحمد السنوسي، الذي وصفته الصحف الغربية بأنه « أحد أبرز صناع الكوميديا السياسية »، ليس مجرد فنان، بل رمز للمقاومة بالضحك. منذ بداياته مع فرقتي « ناس الغيوان » و »جيل جيلالة »، وثنائيته الشهيرة « بزيز وباز »، كان السنوسي يطلق سهام السخرية على كل ما هو مقدس في قاموس السلطة. لكن هذه الجرأة كلفته ثمناً باهظاً: منعه من الظهور في المغرب لمدة 18 عاماً، منذ منتصف الثمانينيات، لتصل ذروتها بعد حرب الخليج عام 1991. يقول السنوسي: « السخرية طائر يكره الأقفاص »، لكنه وجد نفسه محاصراً بأقفاص الرقابة، من العصا التي كادت تقتلع رأسه في مظاهرة عام 1996، إلى المقص الذي يقطع ألسنة الفنانين.
دومان: صحيفة زلزلت العرش
في قلب هذه المعركة، كانت جريدتا « دومان » و »دومان بالعربية »، اللتين أسسهما السنوسي، منصة للسخرية التي « زعزعت النظام المغربي ». لم تكن مجرد رسوم كاريكاتورية، بل قنابل فنية. تخيلوا رسماً يسخر من « ميزانية البلاط الملكي »، يتساءل لماذا لا تُناقش في البرلمان، بل ويقترح زيادتها « عشرين أو مئة ضعف »! هذا الرسم، الذي أغضب القصر وأدى إلى دعوى قضائية ضد الصحفي علي المرابط، لم يكن سوى واحد من أفكار السنوسي التي دخلت تاريخ الصحافة المغربية. وماذا عن الكاريكاتير الذي كشف دفع 12 مليون درهم لمغني الراب « باف دادي » ليغني في قصر مراكش؟ هذه الأعمال لم تكن مجرد نكات، بل فضائح كشفت « الهالة المزيفة » للسلطة، كما يصفها السنوسي.
وزراء الإعدام وشرطة الفضاء
لكن، كيف يواجه الطغاة هذه السخرية؟ بـ »فرمانات ثورية » من وزراء الإعلام العرب، أو كما يسميهم السنوسي « وزراء الإعدام ». هؤلاء، في اجتماعاتهم بـ »جامعة الدول العربية » -أو « مقبرة القرارات » كما يحلو للسنوسي تسميتها-، أصدروا قرارات تهدد « بالويل والثبور » لكل من يجرؤ على نقد « زعيم أو وزير أو حتى غفير ». هذه القرارات لم تكتفِ بمراقبة الأرض، بل أوجدت « شرطة فضائية » تراقب كل همسة تنتقد السلطة. والنتيجة؟ تلفزيونات رسمية تحولت إلى « آلة تعذيب نفسي »، تبث مديح الحاكم 24 ساعة، حتى ينهار المشاهد ويعترف بما فعل وما لم يفعل
!غرام الكراسي: مرض الحكام العرب
في قلب نقد السنوسي، يبرز « الكرسي » كرمز للاستبداد. يصفه بأنه « مرض خطير يسمى غرام الكراسي »، يصيب الحكام حتى يوصون بدفن الكرسي معهم. أما « الجمهوريات الوراثية »، أو « الجـ ملكيات »، فهي النموذج العربي الذي يورث فيه الحاكم « ملايين الدولارات والشعوب » لخليفته. يقترح السنوسي علاجاً جذرياً: « يجب أن نقتل الكرسي »، أي ننتزعه من الحاكم بالقوة، لأن السخرية وحدها قد لا تكفي.
السخرية: سلاح لا ينكسر
رغم القمع، يؤمن السنوسي أن السخرية لن تموت، فهي « تجري في دماء الشعوب ». في الغرب، يُسمح للبرامج الساخرة بجعل الرؤساء « أضحوكة » دون محاكمات، بينما في العالم العربي، يُضرب الساخرون بالعصي ويُقص لسانهم. لكن السنوسي، الذي رفض « التوبة » أو « الاحتواء »، يرى أن السخرية ستبقى « طائراً يكره الأقفاص »، تتحدى الطغاة وتفضح فسادهم. حتى لو جفت طبريا، فإن ينابيع السخرية لن تجف، لأن الشعوب، كما يقول، « إن لم تجد من تسخر منه، ستسخر من نفسها ».
خاتمة: حدود أم لا حدود؟
السخرية السياسية، كما يجسدها أحمد السنوسي، هي سلاح مزدوج: يُضحك ويُوجع. لكن في عالم عربي يضع حدوداً لكل شيء، من الكرسي إلى الفضائيات، هل يمكن لهذا السلاح أن يبقى بلا حدود؟ ربما الإجابة تكمن في كلمات السنوسي: « السخرية ليست ترفيهاً في زمن الطغيان، بل سهام تُصيب الهالة المزيفة ». فطالما هناك طغاة، ستبقى هناك سخرية، سواء جفت طبريا أم فاضت.
المصادر:
مقابلة أحمد السنوسي مع قناة الجزيرة، برنامج « حرية التعبير »، 2003.
تقرير عن « دومان ماجازين » ودور أحمد السنوسي في الصحافة الساخرة، من محادثة سابقة مع المستخدم.
Soyez le premier à commenter