في لقاء مفتوح مع الأستاذ العلوم السياسية عبدالله ساعف، نظمه مختبر الأبحاث في القانون العام والدراسات القانونية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالجديدة، حول موضوع مكانة القانون في النظام السياسي المغربي”، يوم الخميس الماضي 17 أبريل 2025. قدّم تدخل الأستاذ عبد الله ساعف، رؤية تحليلية معمقة لتطور النظام القانوني في المغرب، مرتكزة على مفهوم “القانون الحداثي الرأسمالي” وتأثيراته على المجتمع المغربي، مع التركيز على التحولات الاجتماعية مثل ميل المواطن نحو الفردانية. كما ابرز العلاقة الوثيقة بين التحديث المجتمعي والتطور القانوني، معتبرًا القانون أداة أساسية لتنظيم التحولات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
السياق التاريخي لتطور القانون المغربي
يُشير الأستاذ ساعف إلى أن التطور القانوني في المغرب هو عملية مستمرة تأثرت بعوامل تاريخية، سياسية، اقتصادية واجتماعية.
بعد الاستقلال سنة 1956، ورث المغرب نظامًا قانونيًا مركبًا يجمع بين تراث الدولة التقليدية وإرث الفترة الاستعمارية. كانت المؤسسات محدودة، والقانون العام يعتمد بشكل رئيسي على النصوص الاستعمارية، مع تراجع تدريجي في الإحالات إلى المراجع القانونية التقليدية.
في الثمانينيات، شكّل برنامج الإصلاح الهيكلي نقطة تحول، إذ أدى إلى إعادة صياغة القوانين، خاصة في المجال الاقتصادي، وفق مبادئ الترشيد وتحقيق التوازنات الكبرى. كما كان لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 دور بارز في إطلاق موجة إصلاحات تشريعية واسعة، شملت قطاعات العدالة، التجارة، والبنوك، مما عكس التزام المغرب بمعايير حداثية عالمية.
في السياق ذاته، ساهمت الاتفاقيات الدولية، بما فيها اتفاقيات التجارة الحرة مع دول مثل الولايات المتحدة وتونس، في تعزيز التشريعات الجديدة.
كما أدت أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة (2004) والتوصيات الصادرة عنها إلى تعزيز التطور القانوني، لا سيما في مجال الحقوق والحريات. ومع دستور 2011، برزت قوانين تنظيمية جديدة شكلت إطارًا لتحديث المؤسسات والسياسات العامة.
القانون الحداثي الرأسمالي: محرك التحديث
يُؤكد ساعف أن القانون في المغرب يعكس ديناميات التحديث المجتمعي، حيث يتطور النظام القانوني مع تعقّد المجتمع وتمايزه. يُصنّف هذا التطور ضمن إطار “القانون الحداثي الرأسمالي”، الذي يتميز بالطابع العقلاني والبيروقراطي، مستلهمًا من نموذج الشرعية العقلانية-القانونية لماكس فيبر. هذا النموذج، الذي يقوم على إنتاج القوانين والتشريعات بشكل متزايد، يعكس انتقال المغرب من نموذج الشرعية التقليدية، القائم على الولاء والتقاليد، إلى نموذج حديث يعتمد على القانون والمؤسسات.
تتجلى هذه الحداثة القانونية في عدة مظاهر:
الجوريديسيزاسيون (التقنين): تزايد الجوانب المجتمعية التي تخضع للتنظيم القانوني، مما يعكس خروج العلاقات الاجتماعية من الطابع الطبيعي إلى الإطار القانوني.
الطابع البرامجي للقانون: ظهور قوانين إطارية في مجالات مثل الإصلاح الضريبي، التعليم، والصحة، تعكس نهجًا استراتيجيًا ومخططًا للتشريع.
الطبيعة المركبة للقانون المغربي: يجمع القانون المغربي بين ثلاثة مكونات رئيسية: العرف، الشريعة الإسلامية، والقانون الرأسمالي الحداثي ذو الأصل الاستعماري. ورغم اندماج هذه المكونات مع الوقت، إلا أنها لا تزال تشكل هوية القانون المغربي.
ميل المواطن المغربي نحو الفردانية
يُبرز ساعف تأثير التحولات الاجتماعية، وخاصة ميل المواطن المغربي نحو الفردانية، على التطور القانوني. تشير الدراسات الديمغرافية إلى تغيرات عميقة في البنية الأسرية، حيث أصبحت الأسر أصغر حجمًا، مع تزايد استقلالية الفرد. هذا التحول، المصاحب لتزايد التمدن وارتفاع نسبة النساء رئيسات الأعمال، يعكس صعود الفردانية والعقلانية في السلوكيات الاجتماعية.
هذه التحولات تفرض تحديات جديدة على النظام القانوني، حيث تتطلب إصلاحات في مجالات مثل التقاعد، الحماية الاجتماعية، المساواة، والعمل. على سبيل المثال، تتطلب الزيادة في متوسط العمر وتغير البنية الأسرية قوانين جديدة لتأمين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للأفراد. كما أن صعود الفردانية يعزز الحاجة إلى قوانين تحمي الحريات الفردية وتكرس مبدأ المساواة، مما يعكس توافق القانون مع التطلعات المجتمعية الحديثة.
تحديات فعالية القانون
يُثير ساعف تساؤلات حول فعالية القانون كأداة للإصلاح المجتمعي في غياب عمل سياسي موازٍ. رغم قدرة القانون على تغيير الواقع، إلا أن هناك فجوة بين النصوص القانونية وتطبيقها، ناتجة عن عوامل مثل البنية الاجتماعية، السياق السياسي، والتحديات الإدارية. يرى المتدخل أن القانون، رغم أهميته، لا يكفي وحده لتحقيق تغيير جذري، بل يتطلب تكاملًا مع السياسات العامة والمبادرات الاجتماعية.
خاتمة
يُظهر تدخل الأستاذ عبد الله ساعف أن تطور القانون في المغرب هو عملية ديناميكية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحديث المجتمع. من خلال الانتقال من نموذج الشرعية التقليدية إلى النموذج العقلاني-القانوني، يعكس القانون المغربي طموح الدولة إلى بناء نظام حديث يتماشى مع التحولات الداخلية والضغوط الخارجية. ومع صعود الفردانية كظاهرة اجتماعية، يواجه النظام القانوني تحديات جديدة تتطلب إصلاحات مستمرة لضمان توافق القوانين مع تطلعات المواطنين.
إن هذا التطور، رغم تقدمه، يظل مرهونًا بقدرة الدولة على سد الفجوة بين النصوص القانونية وتطبيقها، مما يستدعي نهجًا شاملًا يجمع بين القانون، السياسة، والعمل المجتمعي. هكذا، يبقى القانون الحداثي الرأسمالي مرآة تعكس طموحات المغرب نحو التحديث، وفي الوقت ذاته، تحديًا مستمرًا لضمان عدالة اجتماعية شاملة. […]