GIL24-TV رحلة الانتخابات بالمغرب: من الاستقلال إلى 1970… قصة بناء “نموذج هجين

من قلب وجدة، المدينة التي شهدت تاريخًا طويلًا من النضال والصمود، نعود بكم في رحلة عبر الزمن لنتتبع مسار الانتخابات في المغرب منذ الاستقلال عام 1956 وحتى عام 1970. فالديمقراطية كانت مفهومًا جديدًا على المغرب المستقل، ومحطاتها الأولى لم تكن مكتملة أو ربما جاءت قبل أوانها.

القفزة الأولى نحو الديمقراطية: تحديات البدايات
بعد استقلال المغرب عام 1956، كان يسعى لبناء نظام ديمقراطي، وقد شهد أولى انتخاباته الجماعية في عام 1960. كانت هذه التجربة الأولى للمواطنين لاختيار ممثليهم في إدارة المدن والقرى. ومع ذلك، واجهت هذه العملية تحديات كبيرة تمثلت في قلة الوعي، والأمية، والصعوبات اللوجستية، خاصة في المناطق الريفية والجبلية حيث تباعد السكان. الإدارة نفسها لم تكن مستعدة تمامًا لهذه التجربة الأولى.
توالت التطورات السياسية، ففي عام 1962، تم وضع أول دستور للمملكة، وقد أشار هذا الدستور إلى الانتخابات والأحزاب السياسية. وعلى ضوء هذا الدستور، أجريت أول انتخابات برلمانية في عام 1963. حينها، لم تكن الأحزاب قوية بما يكفي، وكان التنافس يتم بين “مجموعات” أو أفراد يلتف الناس حول أفكارهم، بدلًا من الأحزاب المنظمة ذات الهياكل الواضحة.

المشهد السياسي والانتخابات الحاسمة
شهد مارس 1960 انتخابات مهنية فاز فيها حزب الاتحاد الوطني بعد أشهر قليلة من تأسيسه. وفي الانتخابات البلدية والقروية التي جرت في 29 ماي 1960، تصدر حزب الاستقلال المشهد بحصوله على 40% من المقاعد، تلاه الاتحاد الوطني بنسبة 23%، بينما نال حزب الحركة الشعبية 7%.
أما الانتخابات التشريعية الأولى التي جرت في 17 ماي 1963، فقد أفرزت فوزًا ساحقًا للجبهة الموالية للملكية، والمعروفة باسم “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” (الفديك)، التي حصلت على 69 مقعدًا. ورغم ذلك، استطاع حزبا المعارضة الرئيسيان حينها، وهما حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحصول مجتمعين على نفس العدد من المقاعد (69 مقعدًا). بلغت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات حوالي 71.8%.
لكن الصورة لم تكن وردية بالكامل؛ ففي نوفمبر من نفس العام، ألغت المحكمة العليا نتائج عدة مقاعد فازت بها المعارضة. كما أن الانتخابات الفرعية التي أجريت في يناير 1964 عززت سيطرة الفديك على البرلمان، قبل أن يتم حلها من قبل الملك الحسن الثاني عام 1965.

توظيف الانتخابات لتعزيز الشرعية التقليدية
تكشف هذه المرحلة عن ثلاث ثنائيات مركزية حكمت المشهد السياسي:

1. ثنائية الشرعية: بين الشرعية التقليدية للملكية (المستمدة من الزعامة الدينية والنضال الوطني) والشرعية الديمقراطية الصاعدة التي كانت تطالب بها الأحزاب الوطنية، خاصة الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. لم يكن الصراع حول إلغاء إحدى الشرعيتين، بل حول أي منهما ستكون مهيمنة. ونجحت الملكية، بذكاء، في توظيف الآلية الانتخابية لا لتعزيز الشرعية الديمقراطية النيابية، بل لتعزيز وتحديث شرعيتها التقليدية وجعلها المصدر الأسمى والأول.

2. ثنائية الإجماع مقابل التنافس: بعد مرحلة الكفاح ضد الاستعمار التي تميزت بإجماع وطني حول الملك، كسر دخول الانتخابات هذا الإجماع، وأدخل الأطراف في دائرة التنافس والصراع العلني على السلطة. رأت الملكية في ذلك تهديدًا لوحدتها ولدورها كحكم فوق الأطياف السياسية. وبالتالي، تحولت الانتخابات إلى أداة لتدبير الصراع واحتوائه، عبر إقامة تعددية موجهة تهدف إلى إضعاف المعارضة الموحدة وتفكيكها.

3. ثنائية التحديث الشكلي مقابل الهيكلة التقليدية: اعتمد المغرب قوانين انتخابية عصرية وليبرالية مستوحاة من النموذج الفرنسي، لكن الممارسة العملية ظلت رهينة الهياكل التقليدية للمجتمع والسلطة. فقد فهم الناس التصويت في البداية على أنه تجديد للبيعة أو اختيار وكيل للقبيلة أو الدوار للدفاع عن مصالحهم أمام السلطان، وليس اختيارًا لصانع قرار سياسي. كما تم توظيف استفتاء 1962 لتحويل المشاعر الدينية والتقليدية للبيعة إلى تأييد شعبي عبر صناديق الاقتراع. وسيطرت الإدارة بشكل كبير على العملية الانتخابية عبر تحديد التوقيتات المفاجئة وحملات الدعاية المكثفة لصاحب القرار.

الستينيات: تأسيس “النموذج الهجين”
لقد نجحت الملكية عبر التجارب الانتخابية الأولى (1960 و 1963) والاستفتاء الدستوري (1962) في تحقيق هدفها الاستراتيجي الأساسي: احتواء الشرعية الديمقراطية الناشئة وتحويلها إلى خادمة للشرعية التقليدية. أصبحت الانتخابات أداة لتجديد شرعية النظام، وليس لتغيير الحكام أو مراقبتهم. هذه النتيجة أسست “للنموذج الهجين” الذي ميز الحياة السياسية المغربية لاحقًا. هذا النموذج يجمع بين مظاهر ديمقراطية ليبرالية (أحزاب، برلمان، انتخابات) تمارس في إطار هيمنة مركزية تقليدية تتحكم في القواعد وتوجه اللعبة لضمان استقرارها كفاعل مركزي لا ينافس على السلطة الحقيقية.

الستينيات كانت لحظة تأسيس هذا النموذج، حيث تم تفكيك إجماع الحركة الوطنية وبناء إجماع جديد تكون فيه الملكية هي المحرك والضامن والقطب الذي لا يتزعزع. وبالرغم من قبول الدستور عام 1962 بنسبة 80% من الأصوات، إلا أن الأحداث اللاحقة، خاصة أحداث 1965 وانهيار جبهة الفديك، عجلت بنهاية هذه المرحلة. دخل المغرب في فترة “بياض سياسي” عقب الإعلان عن حالة الاستثناء التي استمرت حتى عام 1970. هذه الفترة شهدت تقوي نفوذ وزارة الداخلية، التي تحولت إلى أداة وحيدة في يد الملك لتنفيذ اختياراته في كل القطاعات والمجالات.
هكذا، شكلت الفترة من الاستقلال حتى 1970 مرحلة تأسيسية في تاريخ المغرب السياسي، حيث بدأت معالم نظام ديمقراطي محدود، توظف فيه الآليات الحديثة لتعزيز ركائز تقليدية للسلطة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!