النقابة في زمن التناوب.. عجز على فهم أن الإعلام قطاع استراتيجي

جمال المحافظ

احتلت قضايا الصحافة والإعلام في ظل السياقات والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها بداية التسعينات من القرن الماضي، مكانة بارزة في المشهد السياسي الوطني، والتي طرحت ضمن مشاريع الإصلاح خلال هذه الفترة الحاسمة من تاريخ البلاد.

كما أصبحت هناك على ما يبدو قناعة من لدن كافة الأطراف بأن عدم توفير الظروف لتميكن المواطنات والمواطنين من فرص الإلمام والإطلاع الجيد عبر الإعلام بقضايا ومشاكل المجتمع، سيجعلهم مبعدين وعرضة للإستغلال الإعلامي بالداخل والخارج، إذ أن مواطنين بدون تكوين مدني وسياسي، سيكون من السهولة استغلالهم، مع العلم أن قضايا الإعلام شكلت كذلك خلفية وتحضيرا لمرحلة ” التناوب التوافقي”.

وإذا كانت الصحافة لا تعد فقط مجرد قوة ضغط تستهدف الطبقة السياسية، ولكن فضاء للنقاش العمومي وأسلوبا مدنيا، وقاطرة أساسية في مسارات التغيير والتحديث، فإن التحولات التي عرفتها النقابة ارتبطت ارتباطا وثيقا، بما كانت تعرفه الساحة السياسية والمجتمعية والثقافية في بداية تسعينات القرن من متغيرات، خاصة منها ما يتعلق بمجالات الحريات العامة ومن ضمنها حرية التعبير وحقوق الانسان.

وهكذا كثفت النقابة خلال هذه المرحلة عملها في أوساط الصحفيين، وانفتحت على مطالبهم، وتأسست جرائد غير منتمية للهيئات السياسية، وتوسعت تمثيلية النقابة بتأسيس فروع لها، فضلا على التحاق صحفيين من الإعلام العمومي بكل من الإذاعة والتلفزة ووكالة المغرب العربي للأنباء بنقابة الصحافة، مما جعل هذه المنظمة تتحول الى ” نقابة جماهيرية” حسب وصف كاتبها العام الأسبق محمد العربي المساري ( 1936 – 2015 ).

نقابة جماهيرية وصحوة إعلامية

كما تميزت هذه الفترة على المستوى الإعلامي، بطفرة غيرمسبوقة وصحوة إعلامية في الصحافة خاصة المكتوبة، تجلت بالأساس في التزايد الملحوظ في عدد العناوين وتنوعها، وهو ما شكل منافسة حقيقية للصحافة الحزبية التي ظلت ولسنيين طويلة تحتكر سوق الصحافة والإعلام، وهو ما كان له إنعكاس ملموس وتأثير عميق على أداء النقابة وإنشغالاتها .

ولأهمية الإعلام في أي تحول، يلاحظ أن الأحزاب السياسية بادرت بدورها، إلى جانب السلطات العمومية، إلى إيلاء أهمية خاصة لهذا الميدان .كما ساهمت التحولات على المستوى الدولي، خاصة التطور الهائل الذى عرفه مجال تكنولوجيات الإعلام والإتصال في الاهتمام بالمسألة الإعلامية، ورافقها على المستوى الوطني تطور ملحوظ في الصحافة والإعلام كما وكيفا، وتميز على الصعيد السمعي البصري بتوسع ملحوظ في تغطية القناتين الأولى والثانية، وتطوير برامجهما واقتنائهما لآخر التقنيات التكنولوجية.

اسهام في صناعة المرجعيات الإعلامية

في ظل هذه المعطيات، انعقدت المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال ما بين 29 و31 مارس 1993 بالرباط، تحت شعار ” الفضاء الإعلامي: رهانات المستقبل “بمساهمة 457 مشاركا، يمثلون الصحفيين المحترفين، والباحثين والمبدعين، ومسيري المؤسسات الإعلامية والثقافية والحقوقية، ومسيري مرافق مرتبطة بالحقول الإعلامية .وخصصت لدراسة ومعالجة القضايا والإشكاليات الكبرى، التي يعاني منها قطاعي الاعلام والاتصال على كافة المستويات، خاصة الجوانب المرتبطة بالشق القانوني والإقتصادي والمهني، وذلك على قاعدة التوافق والتراضي بين مختلف الشركاء، بهدف الخروج برؤية مشتركة حول الإصلاحات في ميدان الإعلام .

وإذا كان انعقاد المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال، جاء في سياق التحولات التي عرفتها البلاد على المستوى الحقوقي والدستوري، فإن فكرة تنظيم مناظرة وطنية للإعلام، كانت من النقاط الحاضرة دوما في الملفات المطلبية التي يطرحها السياسيون والإعلاميون، وفي مقدمتهم النقابة الوطنية للصحافة المغربية .

اصلاح الإعلام

وتاريخيا كانت ملفات نقابة الصحافة كافية، بأن تجعل المتتبع للشأن الإعلامي، يلمس بوضوح طبيعة العلاقة التي ربطت الدولة بالإعلام، وهي علاقة طبعتها موجات من الأخذ والرد، والتضييق والانفراج، يختلط فيها الإعلامي بالسياسي إلى أبعد الحدود . واعتبرت النقابة المناظرة تدشينا لمرحلة جديدة في الحقل الإعلامي المغربي، وتنظيمها فتح آفاقا جديدة في علاقتها هذا مع الدولة التي حاولت إعادة ترتيب علاقتها بالإعلام، ومحاولة الإنتقال بالتالي من مرحلة التصادم التي سادت مابين 1963 و 1993 إلى مرحلة الإنفراج.

وإذا كان انعقاد المناظرة له بعدين أساسيين علمي وسياسي، جاء في ظل ما كانت تعاني منه الصحف والصحفيين من مشاكل كثيرة، وهي المشاكل والمعاناة التي أدت إلى تنظيم هذه التظاهرة التي جاءت بمبادرة من النقابة الوطنية للصحافة المغربية ووزارة الإعلام(1).

ومن هذا المنطلق، كان دور النقابة الوطنية للصحافة المغربية أساسيا في المناظرة التي تزامن انعقادها مع الذكرى الثلاثين لتأسيس هذه المنظمة، التي طالبت خلالها بإدخال تعديلات قانونية جوهرية على قانون الصحافة..

عرفت سنة 1998 تشكيل حكومة التناوب التي تميزت بتعين الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية والقيادي الإستقلالي العربي المساري في منصب وزير الإتصال، إذ تراوحت مواقف النقابة بخصوص هذه التجربة الحكومية بين الترحيب المشوب بالحذر في البداية، وانتقادا حادا لأدائها في المجال الصحافة والإعلام .

النقابة في خلفية القرار السياسي

واعتبرت أن هذه الفترة لم تسجل أي تحسن في مستوى أداء الصحافة المكتوبة، فالجرائد التي كانت في السابق مساندة للحكومة أصبحت تلعب دور المعارضة، كما انقسمت الجرائد التي كانت تصدر عن المعارضة السابقة، إلى مؤيد للحكومة أو منتقد لها، وفي بعض الأحيان يمتزج التأييد بالنقد في نفس الجريدة موضحة أن ” حكومة التناوب، لم تقدم أي تصور واضح ومفصل حول مشروعها لاصلاح الاعلام وتأهيل المقاولة الصحافية إعلامية.

وسجلت أن هذا الوضع يؤكد عجز الطبقة السياسية، على فهم متطلبات الإعلام كقطاع استراتيجي له خصوصياته المهنية والإدارية والتكنولوجية، والذي لا يمكن أن يكون مجرد أداة عادية، تستعملها الأحزاب أو الإدارة أو السلطة أو اللوبيات المالية لتمرير خطابها، ونشر مواقفها، بطريقة تلقينية ومتخلفة وتقليدية، محملة أن الطبقة السياسية ومختلف الفاعلين مسؤولية هذا الوضع.

وعلى صعيد آخر فإن الممارسة الحكومية – حسب نقابة الصحافة – لم تسجل أي تقدم في تطبيق مبدأ الحق في الوصول إلى مصادر الخبر، حيث بقيت أغلب الوزارات والإدارات العمومية منغلقة تقريبا، فضلا عن أن مهمة الناطق الرسمي باسم الحكومة لم تتجاوز إطار تقديم ملخص، عن أهم موضوعات المجالس الحكومية، ولم يظهر أي نوع من التنسيق بينه وباقي الوزارات والإدارات، لتوفير المعطيات الضرورية لتنوير الرأي العام، ضمن خطة منسجمة ومنسقة، فضلا عن مواصلة تدخل بعض الوزراء أحيانا في العمل المهني بالمؤسسات الإعلامية.

نحو تكريس استقلالية الأداء الصحفي

وعلى صعيد آخر لعبت النقابة دورا هاما – على عهد العربي المساري- في وضع تصورات حول المقاولة الصحفية، والمساهمة في تعديل قانون الصحفي المهني، مما كان له إنعكاس مباشر على الفعل النقابي الصحفي . كما أن التحولات التي عرفها المغرب ابتداء عقد الثمانينات، على الصعيد السياسي والإقتصادي والإجتماعي، انعكست بوضوح على المشهد الإعلامي الذي عرف بدوره حركية وتطورا ملموسين.

وساهمت في خلق هذه الحركية منافسة الصحف الأجنبية والعربية، وظهور جيل جديد من الصحفيين المهنيين من ذوي المؤهلات العلمية والثقافية العالية، فضلا عن الثورة التكنولوجية التي اجتاحت مجال الإعلام على المستوى الدولي، مما فرض على الصحافة الوطنية، أن تواكب هذه المتغيرات، وحتم عليها ولوج عالم الإحتراف، بالتحول إلى مقاولة .

كما ان النقابة كانت مطالبة يستخلص محمد العربي المساري الكاتب العام للنقابة ما بين 1993 و1998، أن النقابة كانت مطالبة بالرفع من قدراتها التفاوضية ، من أجل الإقناع بمطالبها ومقترحاتها.

الرفع من القدرة التفاوضية

ويستخلص العربي المساري أن ذلك يتحقق ب:

-إمكانية تحقيق مكاسب من خلال الحوار مع الأطراف الأخرى، المرتبطة بميدان الصحافة والإعلام.

ممارسة “اللوبيينغ”، للإقناع بمطالب قطاعية، خاصة إذا كانت مرتبطة جديا بتطور الممارسة السياسية والثقافية بالبلاد.

-ضرورة خوض نقاش واسع، على صعيد مهنة الصحافة، بصدد النصوص القانونية المطروحة لكي يحس جميع الأطراف بأنهم معنيون.

-الإستعانة بالخبرة في مراحل الحسم في النصوص، بل قيام النقابة بالتعاقد مع مكتب للدراسات، لتولي تقديم الاستشارة، وتنظيم اللوبيينغ، لأنه في مرحلة معينة يصبح التداول في النصوص مقتصرا على طرفين هما الحكومة والبرلمان.

-تنظيم عمل النقابة وتعزيز قدرتها،على صياغة المشاريع، وتتبع مراحل الحوار، وصولا إلى تحسين قدرتها التفاوضية، حيث كل هذا يتم الآن عبر نشاط تطوعي.

-وفي النهاية الإقناع المستمر للمجتمع المدني، الذي يلخص التوجه الجديد الذي باتت تنهجه النقابة، ويؤطر علاقاتها مع الدولة، أي انتقالها من المواجهة السياسية إلى الإقناع بمطالبها، ودفع الدولة عبر الحوار إلى تبنيها وترجمتها في قوانين الصحافة.

لقد أشرت هذه المرحلة على التحول الذي أصبح يعرفه المشهد الإعلامي في محاولات الانتقال من الصحفي المناضل إلى الصحفي المهني خاصة في ظل منافسة الصحافة الخاصة، ومحاولات تحويل الصحف الى منشئات صحفية، وإصلاح قانون الصحفي المهني وترسيخ المهنية وتكريس الالتزام بأخلاقيات الصحافة، وهي أبرز القضايا التي شكلت انشغالا للمساري خلال توليه الكتابة العامة للنقابة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
× GIL24 sur WhatsApp