الارتسامة الخامسة: اليوسفي والملف الحقوقي

د. بن يونس المرزوقي

مع وفاة المغفور له الحسن الثاني.. بدأ الوضع يتغير.. وطريقة العمل تتسارع..

فأمام ملك شاب.. بدينامية جديدة.. أصبح لزاما على كل المؤسسات أن تشتغل بنفس الإيقاع.. وقد تأكد ذلك خاصة بعد تجديد الثقة في الوزير الأول من قبل الملك في شتنبر 2000..

الهدف من ارتسامة اليوم هو استحضار الملف الحقوقي.. وكيف تم الشروع في معالجته.. لم يكن الأمر بالسهولة التي قد يتخيلها البعض.. وأنا شخصيا استفدت من هذه التجربة شيئا مهما في حياتي.. وهو أن صياغة النصوص القانونية ليس بعمل فني أو تقني.. بل هي “معارك سياسية”.. ولذا، فقد كان الأستاذ عبد الرحمان يوسفي دقيقا عندما تحدث عن “جيوب المقاومة”.. لأن تلك “الجيوب” لا يُمكنها عرقلة عمل حكومة مدعمة بملك شاب أعطى إشارات كثيرة في اتجاه دعم سياسة الوزير الأول.. ولكن يُمكنها تعطيل بعض الإصلاحات لبعض الوقت فقط..

كانت الملفات والقضايا مُتداخلة كما أسلفت.. لذلك فإن ارتساماتي قد لا تكون مرتبة زمنيا، لأن وحدة الموضوع هي التي ستتحكم في عملية السرد..

كانت المسألة الحقوقية من بين أولى اهتمامات حكومة الأستاذ عبد الرحمان يوسفي. فتجربته ومواقفه التاريخية كانت تجعل الصورة واضحة أمامه.. لذلك شرع في العمل على واجهتين: واجهة حل الملفات المرتبطة بضحايا سنوات الرصاص، وواجهة تعديل النصوص القانونية ذات الصلة بالحريات العامة..

ومما سهل مهمة الوزير الأول، إقالة “الرجل القوي” إدريس البصري من وزارة الداخلية في نوفمبر 1999.. وتعيين أحمد الميداوي بدلا منه.. ومعه فؤاد عالي الهمة كاتبا للدولة في الداخلية..

وهكذا قام الأستاذ اليوسفي بمبادرات عديدة على المستوى العملي، حيث تمت تسوية الوضعية المالية والإدارية للمطرودين والموقوفين لأسباب سياسية أو نقابية من موظفي الدولة أو المؤسسات العمومية.. كما تم تنصيب الهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي..

ربما نسي البعض منشور الوزير الأول (1999).. حول مسطرة تسوية الوضعية الإدارية والمالية للموظفين الموقوفين والمطرودين الذين صدر في حقهم عفو ملكي شامل.. والذي اخترته كنموذج لتقريبكم من طريقة عمل الأستاذ عبد الرحمان يوسفي:

المنشور وضع مسطرة لطي هذا الملف عن طريق التعجيل بتسويته..

المنشور وضع حدا للعراقيل التي يُمكن أن تصدر عن الإدارات المعنية من خلال توجيههم إلى عدم “مطالبة المعنيين بالإدلاء بما يثبت أنهم لم يزاولوا أي عمل يدر عليهم مدخولا خلال فترة توقفهم عن العمل”..

المنشور موجه أيضا لوزير الاقتصاد والمالية قصد “التتبع والتنفيذ”..

أما من حيث المضمون، فإن المنشور تجاوز مطالب المعنيين من خلال رفع سقف تعويضاتهم (فمثلا بالنسبة للموقوفين تمت تسوية وضعيتهم على أساس مناصبهم المالية مع احتساب فترة التوقيف لأجل الترقية في الرتبة حسب النسق السريع ودون اشتراط النصاب المالي (الكوطا) لأجل ترقيتهم في الدرجة.، ونفس الشيء بالنسبة للمطرودين.. مع تعويض الذين اختاروا عدم الرجوع إلى عملهم…)..

السياسة الحقوقية المعتمدة آنذاك، ينبغي أن يتذكر الجميع أن هذه الفترة عرفت أكبر توسيع لفضاء الحريات العامة، وبداية معالجة موضوع التمكين السياسي للمرأة؛

ولتحصين مجال الحريات العامة، تم العمل على تعديل قانون الصحافة والنشر.. وقانون تأسيس الجمعيات.. وقانون التجمعات العمومية.. وذلك عن طريق الوزارة المكلفة بحقوق الإنسان التي كان يتولاها آنذاك الأستاذ محمد أوجار.. وقد تم العمل بتنسيق مُحكم بين القطاعات الوزارية ذات الصلة بالحريات العامة: وزارة العدل، وزارة الداخلية، وزارة الاتصال.. وخاصة الأمانة العامة للحكومة (كان يتولاها آنذاك عبد الصادق ربيع)..

وفي نفس الوقت.. تم الاشتغال على نص قانوني مُستقل يُؤطر الأحزاب السياسية خارج النص القانوني المنظم لتأسيس الجمعيات.. وهو نص لم يُكتب له الصدور إلا لاحقا خلال سنة 2006!!

كانت الخلافات موجودة بخصوص المدى الذي ينبغي أن تصله التعديلات المقترحة.. لذلك تم اللجوء إلى الحلول الوسطى في حالات عديدة.. وسيُلاحظ أي مُتتبع لتطور النصوص المرتبطة بالحريات العامة أن “هم” حكومة التناوب كان هو إلغاء التراجعات التي تمت منت خلال تعديلات 1973.. نجحت الحكومة في ذلك.. لأنه رغم أن القطاعات الوزارية المعنية لم يكن لها بالضرورة نفس التقدير (وخاصة كل من وزارة الداخلية والأمانة العامة للحكومة)، فإن الموافقة على مقترحات اللجان التقنية كانت تتم في لجان بين وزارية يرأسها الوزير الأول.. وطبيعي أن تكون وجهة نظره الحقوقية مُرَجحة.
(يُتبع)..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
× GIL24 sur WhatsApp