على الأقل هاته حسنة تحسب لكورونا

عبد السلام المساوي
1_ ستتضرر كل الميادين من فيروس كورونا المستجد ، لكن الصحافة ستكون من بين القطاعات التي سيقتنع أهلها جيدا بأن هناك زمنين : زمن ما قبل كورونا وزمن ما بعد كورونا .
نعم فهمت الناس تحت ضغط الرعب والهلع والخوف أن هناك مهنة قائمة بذاتها تسمى الصحافة يمارسها مهنيون يسمون الصحافيين ، يعرفون الفرق بين الأجناس المشكلة لهاته المهنة ، لا يكتفون بحمل الميكروفونات في أيديهم ومدها للجميع ، ولا يعتقدون أن مجرد التوفر على هاتف نقال جديد هو أمر يعطيك بطاقة الممارسة المهنية ، يمضون أيامهم والليالي في مطاردة أخبار الكل هنا وهناك وفي التأكد من هاته الأخبار ، أو نفيها قبل نشرها على العموم .
يشتغلون في هيات منظمة تعطيهم مقابل الحرفة التي يمتهنونها ، وتؤدي الضرائب الكثيرة والواجبات الأكثر ، وتلتزم بقوانين عديدة ، وتخضع لضوابط لا حصر لها ، وتعاني من منافسة غير شريفة اطلاقا مع الفوضى العارمة وحواسها التي ضربت الميدان في مقتل منذ سنوات كثيرة .
بح صوت المهنيين وهم يقولون ” اننا نحتاج صحافة جادة وجدية يصدقها الناس حين الضرورة …” .
ضاعت الحبال الصوتية للمنتمين المساكين لهاته المهنة يصرخون ” حكاية المواطن / الصحافي في هاته التي يختفي عددكبير من النصابين والأدعياء خلفها لن تؤدي بنا الا الى الهلاك ” ، أصيب المهنيون اخيرا بالخرس بعد أن فهموا ألا احد يريد تصديقهم وهم يقولون بديهية صغيرة : ” الصحافة مهنة ولا يمكنها أن تكون حظيرة تجمع كل من هب ودب ” .
اليوم ، ها نحن نشرع في الاستيعاب المؤلم لهاته البديهية ، والدولة تشرع في الضرب بيد من حديد على كل من يستسهل نشر أي شيء دون ان تتوفر له أية خاصية من خاصيات النشر وهذه لوحدها مسألة إيجابية ومطلوبة .
اليوم هاهي القنوات التي كان الجهة يسمونها ” المؤثرة ” والفاعلة في الأنترنيت المغربي تضربنا بسفاهتها وهي تتندر في وباء خطير يهدد الخلق اجمعهم ، أو وهي تعتقد ان الشهرة الزائفة التي أصبحت لها تعطيها الحق في أن تكذب على الناس ، وفي أن تروع الناس ، وفي أن تختلق الأخبار مثلما دأبت على ذلك منذ القديم ، سوى أن الموضوع هاته المرة لا هزل فيه ولا لعب .
اليوم ها نحن نفهم ان خاصية ” اللايف ” المتاحة لك في مواقع التواصل الاجتماعي لا تعطيك لوحدها شرعية مخاطبة الناس اذا لم تكن تتوفر على مؤهلات مخاطبة هؤلاء الناس . لا يكفي ان يكون اسمك ” مي نعيمة ” وأن تشتهر لدى قوم البذاءة بأنك تشرب العصير وانت تردد الكلام الساقط ، أو أن يكون اسمك أبو النعيم وأن تشتهر عند قوم البذاءة الآخرين بأن تكفر المغرب طولا وعرضا وشرقا وجنوبا ثم تتلمظ امامنا وتمضي .
لا يكفي أيضا أن تصور لنا روتينك اليومي من الخلف _ أعز الله قدر الجميع _ ولا ان تصطنع لك ميكروفونات مضحكة ومخجلة تمدها للجميع دون اي عملية تصفية أو تنقيح وأن تكتب تحت رداءتك ” عاجل ، فضيحة ، أنظر قبل الحذف ، أنشرها ولك الأجر ” ، لا يكفي. أيضا أن تتخفى وراء حمزة وأن تعتبره ” طون بيبيك ” وأن تشوه من تعرفهم وأنت تجالسهم يوميا ، وأن تحمل المواقع الطائرة ما نشرته من فظاعات وأن تعيد نشره وهي تعتقد أنها تمارس الصحافة وتستفيد وتفيد .
أهل المهنة الحقيقيون ، وهم يرون الناس تعود الى المرتكزات الأولى ، وتحاول أن تبحث عن الخبر الحقيقي من مصادره المعتد بها ، والتي صنعت على امتداد التاريخ جديتها وبصمتها يحسون بنوع من إعادة الاعتبار اليهم بعد أن تم قصفهم طيلة السنوات الأخيرة التي مرت بعبارة ” ماتت الصحافة التقليدية ” ، ” الزمن اليوم هو زمن البوز أيتها الديناصورات ” ، ” هؤلاء المؤثرون الجدد أصبحوا صحافة الوقت الحالي ، لقد مضى عهدكم أيها القدامى ، ناموا في قبوركم …”
العديدون ازدردوا حزنهم على مضض ، وواصلوا العمل وفق الطريقة التي تعلموها وأحبوها واحترموها وقالوا في قرارة أنفسهم : اذا كان ضروريا ان يقال لنا اننا متنا فلنصحب معنا مهنتنا الى القبر ، لن نتركها لهؤلاء الجهلة لكي يعربدوا فيها مثل ما يشاؤون ” .
اليوم ومع هذا القادم من حيث لا ندري ، يكتشف الناس ان الجهل رعى اوبئة كثيرة في ميادين أخرى وعمل كل ما بوسعه لكي يعتقد الناس أنها ليست خطيرة على صحتهم ، قبل أن نشرع شيئا فشيئا في اكتشاف العكس تماما .
على الأقل هاته الحسنة تحسب لكورونا .
2_ لمن كان يحتاج دليلا على أن المغاربة يلتقطون حس التواصل عندما يكون سليما وسويا ومتصلا بهم بالفعل ، يكفي العودة إلى الاقبال الكبير الذي تسجله الوصلات التحسيسية التي يقدمها الوجه التلفزيوني المعروف صلاح الدين الغماري على شاشة القناة الثانية ” دوزيم ” هاته الأيام .
المغاربة تفاعلوا بشكل غير مسبوق مع هاته الوصلات التحسيسية لأنهم أحسوا بها تخاطبهم وتهتم بما يهمهم بالفعل.
هنا لا بد من التنويه باستعمال اللغة المغربية في هاته الوصلات ، وهي اللغة ، التي ظل التلفزيون يعتقد لعقود أنها لغة ثانية وفي مرتبة أقل ، وأنه من الأفضل الحديث باللغة الفصحى وان لم يفقه الناس ما تريد قوله هاته اللغة !!!
ثانيا ، لا بد من التنويه بإعادة الاعتبار لواحد من. الوجوه الجادة في القناة الثانية .
الرهان على وجوه البوز واللغة الساقطة التي لا علاقة لها بلغة الشارع ، بل لها علاقة بلغة ” الهموز والهوتات ” ، ومحاولة اقناع المغاربة أن ” الشو الفارغ ” هو الحل الوحيد ، هو رهان وصل اليوم الى نهايته .
المغاربة يريدون لغتهم الدارجة في التلفزيون ، ويريدون معها حمولة صحافية ومعرفية تشفع لمن يتحدث اليهم في أن يخاطبهم ، ولا يريدون ان يتم فتح الباب لمن هب ودب حتى أصبحت أكبر انجازات تلفزيوننا هي استضافة كل من ارتكب مصيبة في اليوتوب ، أو استقبال كل من قضى حاجته في انستغرام أو تويتر .
ثالثا ، قنواتنا التلفزيونية ؛ دوزيم والأولى ( بكل تفرعاتها ) وميدي ان تيفي ، فهمت أو شرعت في استيعاب المطلوب منها من طرف المغاربة …وهذه حسنة تحسب لهذا الداء ، ونعمة تلفزيونية عثرنا عليها في قلب هاته النقمة التي تجتاح العالم بأسره .
ونتصور ان هذا الدرس القاسي ، الذي نتلقى يوميا تعليمه جميعا ودون استثناء ، سينفعنا بعد مرور أيام الشدة هاته لكي نراجع كثير الحسابات ، ولكي نستفيد من كثير الأخطاء التي كان يتحدث لنا عنها الناس الصادقون دوما وأبدا ، وكنا نعتقد أنهم يفعلون ذلك لأن لديهم ” حسابا وهميا ” معنا قبل أن نكتشف أن الناس كانت تغار فقط على صورة بلدها ، ونتمنى أن ترى تلفزيون بلدها مسايرا لوعي الناس ولوعي مشاهدات الناس ولوعي اطلاع الناس في هذا البلد ، الذي لم يكن غبيا ولا رديئا في يوم من الأيام لكي يقبل ان تتم مطرقته يوميا عبر تلفزيونه بالغباء والرداءات .
برافو لقنواتنا على الصحوة وان كانت متأخرة ، ونتمناها صحوة دائمة ، وليس مجرد رد فعل على هذا الوباء اللعين .
3_ عندما يصبح تلفزيوننا محترف غباء ، ومدمن رداءات ومصرا على ألا يبذل أي جهد ، وأن يكتفي بالسهل المتيسر للجميع من نقل من الانترنيت ، ومن تجميع لتفاهات يعثر عليها هنا وهناك نشيح بناظرينا عنه ولا نعطيه اهتماما ولو صغيرا .
بالمقابل عندما يتألق تلفزيوننا ، مثلما هو واقع اليوم في حصة ” أسئلة كورونا ” على ” دوزيم ” ، أو في الحصة المشابهة التي شرعت القناة الاولى هي الأخرى في تقديمها بلغة المغاربة الأم ، أي المغربية الدارجة ، وبطريقة تريد ايصال المعلومة للناس ولا تريد التعالم عليهم أو اشعارهم أنهم لا يفهمون ، هنا نصبح جميعا مدمني هذا التلفزيون المحلي .
مشكلتنا الأساس مع تلفزيوننا التي تجعلنا ننتقده بحدة هي أننا نغضب عندما نرى مغاربة يشاهدون ” الجزيرة ” ، ومغاربة اخرين يشاهدون ” اقرأ ” ومغاربة اخرين يدمنون على ” ام بي سي ” ومغاربة من نوع رابع يتابعون ” تي اف 1 ” و” فرانس 2 ” ، ” كنال ” ومغاربة اخرين يجدون كل متع الدنيا لدى ” اوروسبور ” أو ” بي ان ” فيما قنوات وطننا تشكو الهجران لأنها لا تبذل الجهد الكافي لمعالجة هذا الهجران ، ولأنها لا تجد من يساعدها على مداواة هذا الداء .
هذا كل ما في الأمر لا أقل ولا أكثر ، وهذه مسألة قديمة فينا منذ الأول : نحب المغرب ونريد له الصدارة في كل المجالات ، ولا نحب كثيرا من يرضون بالهزائم والمراتب الدنيا .
لذلك لا مفر ، مزيدا من تمغربيت في تلفزيوننا ، ومزيدا من الرغبة الصادقة في التواصل مع الناس سواء في زمن كورونا ، أو بعد ان يرفع الله هذا الوباء ويرفع معه كثيرا من الغبش عن أعين لا تريد رؤية النور الساطع أمامها بكل وضوح …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى